لاشك أن وباء الكورنا فضح الزيف العالمي، في قدرة الدول الكبرى، على مجابهة الأخطار التي تحدق بالعالم صحيا واقتصاديا، إن ثمة انهيار اقتصادي وصحي وشيك يهدد الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الرأسمالية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية ـ فمالذي جرى؟ وهل يمكن للعالم أن يتدارك ما يحدث علي غرار الأزمات التي لحقت به كالأزمة المالية في سنة 2007؟
إن منطق التاريخ ببساطة حسب ابن خلدون : إن كل ما له بداية له نهاية أيضا.. ورأينا ذلك مرار وتكرار عبر شواهد التاريخ، وليس ببعيد سقوط الشيوعية ونظرية ماركس، وهكذا فإن مابعد الكورونا ليس مثل ماقبلها، فمؤشرات الانهيار الاقتصادي المرتقب بعد انقشاع سحابة الكورونا حاسمة، وأن النظام العالمي والرأسمالية في مأزق تاريخي، خاصة وأن احد أركان أي تغير عالمي هو قدرة الاقتصاد علي الصمود في ظل الأزمات.
لاشك أن القلاقل الاجتماعية التي ستحدث يسبب إفلاس الشركات، وتسريح أعداد كبير من العمال في الدول المتضررة، ستكون دافعا لها لإحداث تغيرات سياسية كبيرة بعد أن فشلت في إدارة الأزمة، وربما يسمح هذا المناخ المضطرب لعناصر متطرفة من استغلاله للصعود إلى سدة الحكم بحجة منع سقوط الدول.
ليس هذا سيناريو ضبابي في ظل أزمة شلت قدرات العالم في إبراز قدرته علي التضامن وتقديم المساعدة، لقد عانت إيطاليا من تعنت دول الجوار في مساعدتها في ظل الأزمة الصحية التي سببها فيروسا كورونا، وجاءت المساعدة من الصين وكوبا وروسيا، في حين وقف الحلفاء في الاتحاد الأوربي عاجزين عن المساعدة ، نفس الشئ حدث لأسبانيا وفتك الفيروس بأعداد كبيرة هناك، ولم تعد المستشفيات قادرة علي استيعاب الأعداد، ولم يفعل الاتحاد الأوربي شيئا، بل حدث انكفاء علي الذات غير مسبوق، وكل دولة تقوقعت داخل حدودها!
لابد من الإشارة هنا إلى أن أزمة الرأسمالية والدول الغربية ليست وليدة فيروس كورونا فحسب، إنما سبقتها بسنوات عديدة أزمات متكررة، وفي كل مرة كانت تنجح في التغلب علي الأزمة بحلول مؤقتة، لكنها لم تنجح إطلاقا في التخلص من الإرث الرأسمالي الجشع في إرساء مبدا المساواة بين البشر، وهو الذي كان دائما برميل بارود يمكن أن ينفجر في أي وقت تحت وطأة أي أزمة اقتصادية.
إن شعوب العالم قد ضاقت ذرعا بالجشع، والاستغلال، وانعدام العدالة، وتكدس الثروات في أيادي قلة قليلة، ذلك إنها أمور لصيقة بالنظام الرأسمالي ونتاج طبيعي لقواعد عمله، كما أن انحياز الدولة لأصحاب رؤوس الأموال على حساب القاعدة العريضة من الناس كان دائما مؤشرا خطيرا لإحداث قلاقل اجتماعية في أي وقت عندما تضيق الأمور بالناس عندما تحل الكوارث بالبشر .
في الولايات المتحدة علي سبيل المثال نجد أن أغنى 10 بالمئة من السكان يجنون 47 بالمئة من إجمالي الدخل القومي، بينما تبلغ النسبة في أوروبا 37 بالمئة، وفي الصين 46 بالمئة وهذا يؤكد حقيقة اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء في ظل نظام يساعد الأغنياء علي مزيد من الثراء والفقراء علي مزيد من الفقر.
وبما ان الثروة تتكدس لدى أصحاب الأموال بمعدلات تفوق معدلات النمو الاقتصادي، فإن الخلل سيظل قائما بين القدرة على الانتاج وحجم الطلب الفعال الذي سيتراجع كلما تراجع نصيب عامة أفراد المجتمع من الدخل، مما يؤدي إلى تراجع الإنتاج وتزايد البطالة، وهنا وأمام هذه اللحظة التاريخية الفاصلة في مصير الأمم نتساءل ـ ماذا سيفعل الأغنياء الذين تتكدس الثروة في ايديهم بعد أزمة الكورونا؟ وماذا سيفعل الفقراء الذين سيجدون انفسهم عاطلين عن العمل بعد أن تغلق الشركات أبوابها في ظل تلك الأزمة القائمة؟
لا احد يستطيع الجزم بما يمكن أن يحدث في ظل أزمة ما زالت قائمة، لكن الدلائل تشير إلى أن العولمة ستنتهي، وسيكون هناك تراجع في الانفتاح الدولي، وسيتم تقيد حركة التجارة بين الدول، بل وحركة السفر نفسها بما يعني أن الاقتصاد الحر سيصبح في مهب الريح، كما أن التحديات التي سيواجهها النظام الرأسمالي جراء الأزمة الحالية لن يقتصر على إيجاد التمويل اللازم له لإنقاذ الشركات والمؤسسات المالية والمصرفية من الإفلاس والتعثر، إنما سيكون أمام تحدي كبير في في تامين إيجاد فرص عمل والحفاظ علي استمرار الطبقة المتوسطة والفقيرة التي هي عماد أي مجتمع من السقوط أمام الديون التي أغرقتها بها المؤسسات المالية الساعية إلى الأرباح.
أتذكر قبل عدة سنوات أن وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامز فيلد قال مقولته الشهيرة في مؤتمر ميونيخ للأمن: أن القارة الأوربية أصبحت قارة عجوز، وأن أمريكا تتطلع إلى الدول الصاعدة في القارة، وظلت هذه المقولة سائدة ، وتظهر في كل مرة تفشل فيها القارة الأوربية في إيجاد حلول لقضاياها، كما حدث في أزمة اللاجئين الذين تدفقوا إلى القارة سنة 2015 فاختلف القادة الأوربيين آنذاك حول حصص التوزيع، كما اختلفوا في وقف الحرب الليبية، وتزويد الدول المتهمة بحروب وانتهاكات لحقوق الإنسان بالأسلحة، ثم تجئ الأزمة الجديدة ويفشل الاتحاد الأوربي في مساعدة إيطاليا ويقف موقف المتفرج!
لقد تنبأ كارل ماركس قبل 170 عاما بانهيار الرأسمالية، واليوم وبعد الانهيار اللاقتصااد العالمي المرتقب بعد كارثة الكورونا، فإن العديد من الخبراء باتوا يعتقدون أن النظام الرأسمالي الحالي لم يعد مهيئا على الأقل في المدى القريب من تجاوز ازمته الحالية في الاستمرار ، بل إنه قد لا يتمكن من ذلك مطلقا مثل المرات السابقة عندما أدخل إصلاحات مابعد الانهيارات، بسبب أن العولمة وتشابك اقتصاديات العالم سهلت بشكل كبير عولمة الأزمات وانتشارها بين بلدانه، فاصبح من الصعب إنقاذه من السقوط كما كان من قبل.
مما لاشك فيه أن هذا سيتيح لقوي جديدة أن تحل محل القوي القديمة، وبالتأكيد ستتغير مراكز القوي في العالم، ومن ابرز نتائج ذلك هو تصدر الصين للعالم لقيادة الجديد، عالم مابعد الكورونا، وتراجع الولايات المتحدة وأوربا، ومن ابرز الدلائل علي ذلك هو الفشل في إبراز أي تضامن أمريكي أوربى في أزمة الكورونا، فأمريكا منعت الطيران من والي أوربا الحليفة لمدة شهر، ولم تساعد إيطاليا المتضررة ، لكن الصين قدمت المساعدة ولم تعلن عن قفل حدودها مع الأوربيين أو الأمريكان.
أن الحل الحقيقي للأزمة لا يمكن أن يتم إلا بالخروج على قواعد ومبادئ النظام الرأسمالي، وإبدالها بقواعد جديدة قادرة على مواجهة التحديات، وهذا هو بالضبط ما ستقابله الدول في النظام العالمي لما بعد الكورونا، فالعالم وقتها سيكون مطالب بإرساء أسس نظام جديد أكثر عدالة وكفاءة وأخلاق.
التعليقات