في مقدمة الملف الذي أصدرته الاسبوعية الفرنسية "الالكسبريس"(الاسبوع الثاني من شهر اكتوبر-تشرين الأول 2015) تحت عنوان :”الغضب الكبير للمثقفين الفرنسيين"، كتب كريستيان ماكاران يقول :”كلّ شيء يشير الى تدهورهم. ومنذ عقود، وتأثير المثقفين على الحياة السياسية يتضاءل، ويفقد حيويته. وهو يقدّر بسحب العلاقات المباشرة التي تربط المثقفين برجال السلطة والنفوذ الذين يقدمون لهم أحيانا مساندتهم أو بالعكس يشنّون عليهم هجومات عنيفة وحادة. لا شيء يمكن أن يكون شبيها بتلك الصورة المدهشة والناطقة لذلك اليوم من أيّام شهر حزيران-يونيو 1979،حيث قام كلّ من جان بول سارتر ورايمون آرون بالذهاب الى قصر "الايليزيه" محاطين بأندريه غلوكسمان للدفاع عن الفيتناميين الفارين في مراكب الموت". وأضاف كريستيان ماكارون يقول بإن المثقفين الفرنسيين قد يستفيقون من جمودهم ولمبالاتهم بما يحدث من حولهم. وهذا ما حدث لهم خلال الحرب الأهلية التي شهدتها يوغسلافيا خلال التسعينات من القرن الماضي، غير أنهم سرعان ما ينكفئون على أنفسهم، ويصمتون، أو هم ينخرطون في معارك ضد بعضهم البعض. وكل واحد منهم يسعى من خلال هذه المعارك أن يكتسب الشهرة التي تخول له أن يقول وأن يفعل ما يريد. ويرى كريستيان ماكارون أن الاوضاع الحالية التي تشهدها فرنسا، وجلّ البلدان الأوروبية ،والمتمثلة في انتشار التشدد الإسلامي في أوساط المهاجرين، وفي تدفق أعداد كبيرة من الفارين من الحروب والمجاعات ومن التصفيات الإثنية والعرقية، خصوصا من منطقة الشرق الاوسط، تزيد أوضاع المثقفين تعقيدا، وتفضح عجزهم ،وفقدانهم للبوصلة، وترددهم في اتخاذ المواقف الجريئة. بل أن البعض منهم ممن كانوا من انصار اليسار انقلبوا فجأة على أنفسهم ، وأصبحوا يطلقون أفكارا تعكس اطروحات اليمين المتطرف.

ويعدّ ألان فينكيلكروات المولود عام 1949 من أبرز الوجوه الثقافية التي يمكن القول بأنها ضحية ما يسميه هو نفسه ب"الهوية الشقية". ومنذ سنوات عديدة، وهذا المفكر الذي ينتمي الى أصول يهودية بولونية، يسعى من خلال كتبه ومقالاته الصحفية الى الدفاع عن الأطروحات التي اشتهر بها اليمين الفرنسي التقليدي من دون أن يتنكر لفلسفة الأنوار . لذلك لم تتردد مجلة "لوفيغارو" المحافظة في نعته مؤخرا ب"الفرنسي الحر". وفي كتاب صدر له عن دار "ستوك" في أواسط شهر اكتوبر 2015 تحت عنوان :”الاستقامة الوحيدة" هو يعلن أن فرنسا "تعيش تحولا تاريخيا جديدا” .تحوّلا لا يعني فقط أن الحاضر يكرر الماضي بل ويمهد أيضا لاستكشاف ما يخفيه المستقبل. وفي كتابه المذكور الذي تكثر فيه الاستشهادات من أعمال كل من هايدغر، وليفيناس، وشارل بيغوي، يقوم ألان فينكيلكراوت باستعراض أهم الأحداث السياسية والإجتماعية التي عاشتها فرنسا على مدى 2013،2014.وهو يكتب قائلا:” الانترنت، آخر ثوراتنا التكنولوجية ،رفعت الحاجز. والأحداث لم تعد صلبة وجامدة بل متحركة. ونحن باستطاعتنا ان نشكّلها بحسب الإيديولوجيات مانحين اضافة لهذه العملية الفاضحة للتحقيق المضاد".

ويرى ألان فينكيلكراوت أن الفكر الفرنسي يعاني راهنا ما كان يسميه الفيلسوف رايمون آرون ب"الكسل الفكري". وهو كسل يحول دون النفاذ الى جوهر الواقع ويبقي الفكر على السطح يشطح شطحات المذبوح العاجز عن أن يكون فاعلا ومفيدا وناصحا ومضيئا طريق الذين يتطلعون الى الخروج من العتمة. وعن ذلك يكتب الان فينكيلكراوت قائلا :”هذا الكسل يسمى راهنا "الذاكرة". لكن لا بدّ من توضيح ما أقول :”أنا لا أناضل ضدّ واجب الذاكرة دفاعا عن الحقّ في النسيان . حضارة أوروبا ضربت حدّ الموت من طرف أسلحة شعوبها الاكثر تحضّرا، ونحن لم "نخرج بعد من هذه المأساة" كما يقول فرانسوا فوريي. غير أن التاريخ لا يرحم ولا يمنحنا فرصة تدارك ما نحن فقدناه، وما أضعناه. ولدينا شياطين، وهذه حقيقة. كما لدينا أيضا أعداء. وقد قررنا عند خروجنا من الحرب الكونية الثانية أن لا يكون لنا أعداء. وإذا ما نحن اهتممنا بشياطيننا على حساب الانتباه الذي علينا أن نبديه نحو أعدائنا فإننا نكون قد حكمنا على أنفسنا بالموت. إن زمننا لا يشبه زمنا آخر. وهذا ما يتوجّب القبول به". ولكن من هو هذا العدو الذي لا بد من مواجهته قبل فوات الأوان؟

عن هذا السؤال يجيب الان فينكيلكراوت قائلا :”علينا أن نتذكر قولة جوليان فرويند :”ليس نحن من يحدد العدو. العدو هو الذي يحددنا". والحال أن هذا العدو يعلن عن نفسه جهارا، في حين نكتفي نحن بالقيام بتظاهرات للتعبير عن صداقتنا له، واحترامنا له. وقد أعلن الأصوليون الإسلاميون المتطرفون الحرب على من يسمونهم ب "الصليبيين". لذا علينا أن ندرك فداحة الخطر المتربّص بنا. ولربما يعني هذا أن التنوع الثقافي الذي نعيشه في الوقت الراهن لا يعدو أن يكون وهما. فنحن نتطلع من خلال التنوع الى المحبّة البريئة. غير أن ما نعيشه يشير الى أننا نتجه الى وضع سيكون أكثر عسرا، وستكون فيه المواجهة عنيفة وحادة".

ويرى الان فينكيلكراوت أن الجانب الذي يجب الإنتباه اليه هو أن جلّ المهاجرين القادمين من البلدان الإسلامية يرفضون الاندماج في الحياة الأوروبية. وجميعهم يشتركون في هذا الرفض بمن في ذلك أولئك الذين ينتمون الى الجيل الثالث والرابع. والعديد من هؤلاء الذين يتمتعون بجنسيات اوروبية التحقوا خلال السنوات الاخيرة بتنظيمات أصولية راديكالية مثل"داعش"،و"جبهة النصرة"، وغيرها من التنظيمات التي تنشر الموت والخراب في كل من سوريا والعراق وليبيا .وكل هذا يشكل ادلّة قاطعة على أن ما يسميه علماء الاجتماع ب"الاندماج" مستحيل التحقق.

ولا يتردد الان فينكيلكراوت في القول بأن ظاهرة "الجهاد" أقامت جدارا بين الغرب والشرق كما في عهود الحروب الصليبية. وأضاف قائلا :”ليس بإمكاننا أن ننسى مجزرة الحادي عشر من شهر جانفي-يناير .2015 فقد تمّ قتل رسامين وصحافيين . وردّا على هذه الجريمة نزل الشعب الى الشارع لكي يقول بإن حرية التعبير مضمونة وأنها أساسية في الهوية الوطنية بحيث يتحتم قبولها وإلاّ دللت هذه الهويّة عن رافضها. وفي هذه الفترة برز شعار"أنا شارلي". غير أن صدمة أخرى سرعان ما حدثت. فقد تبيّن أن الشعار المرفوع لم يكن يعني كل الفرنسيين. والرافضون له من سكان ما يسمى ب"الأحياء الشعبية" مكثوا في بيوتهم زاعمين أن جماعة "شارلي ايبدو" تجاوزا الحدود. وعندئذ تشكل انقسام داخل المجتمع الفرنسي، وأنا لا أتصور أن الأمور ستتطور نحن الأفضل. وانا أخشى أن يتشكل نوع من القطيعة الثقافية وإلإقليمية داخل فرنسا. وأعني ب" الأحياء الشعبية"، تلك التي أفرغت من سكانها الأصليين ،أبناء" المدرسة القديمة" بحسب تعبير ميشال اونفراي. فهل هذا يعني أنه سيكون في فرنسا مستقبلا شعبان لا يمكن التوفيق بينهما؟".

ويحمّل آلآن فينكيلكروات المسؤولين السياسيين من جميع الأطياف مسؤولية ما يحدث راهنا قائلا بأنه كان من الضروري أن يراعوا قوانين الضيافة، وأن يركزوا على أسسها، وأن يعيروا اهتماما للبعض من التقاليد العريقة في المجتمع الفرنسي لتفادي الفوضى الراهنة. كما عليهم أن يفرضوا برامج في المدارس وفي الجامعات تحتم على المهاجرين التعرف على القيم الإنسانية التي تجعلهم قادرين على قبول فكرة الاندماج ،والعيش مع الآخر واحترام ثقافته ،وتقاليده، وديانته.

وعن موجات الهجرة التي تدفقت على اوروبا مؤخرا ،قال الان فينكيلكراوت :”أمام هذا التدفق ،نحن نشعر جميعا بالذهول. لكن للأسف الشديد ،كلما سعينا الى التفكير حول هذه الظاهرة، نصبح مدانين وملعونين. وصورة الطفل أيلان الذي لفظه البحر، لم تكن فقط صورة. كانت بالأحرى نداء الى الإنسانية جمعاء. لم تكن صورة لننظر فيها . بل كانت صورة تنظر الينا. وقد أراد البعض سماع هذا النداء وكأنه اتهام لأوروبا. وكتاب الإفتتاحيات الذين نصبوا أنفسهم حراسا للضمير انتقدوا بحدة التراخي، والأنانية في مجتمعات أوروبا العجوز. غير أنهم ليسوا على حق. وإذا ما حدث مثل هذا التدفق فلأن أوروبا مضيافة وانسانية خلافا للعديد من الدول الأخرى التي أوصدت أبوابها أمام المهاجرين. وأنا مع حق اللجوء، لكن لا بد من منح هذا الحق لمن يستحقه عن جدارة!”.