منذ بداية بثّه في أول يوم من شهر رمضان على القناة الوطنية التونسية، ومسلسل ّقلب الذيب" لا ينقطع عن إثارة عواصف من الإحتجاجات إثر كل حلقة من حلقاته حتى أن هذه الاحتجاجات غطت أحيانا على هموم التونسيين في زمن وباء الكورونا.

والمطلقون لهذه الاحتجاجات، وهم اعلاميون، ونقاد، ومؤرخون، وسياسيّون، ومثقفون من أطياف مختلفة، يشيرون إلى أن المسلسل المذكور يعكس رؤية خاطئة ومزيّفة لفترة هامة من التاريخ التونسي، وتحديدا فترة النضال الوطني التي سبقت حصول تونس على استقلالها. كما أنه يشوه بطرق خبيثة ومتعمدة شخصيات وطنية كبيرة كان له دور هام في النضال المذكور، ومنها من دفع حياته ثمنا لذلك. تنضاف إلى كل هذا النوايا السيئة التي يتضمنها المسلسل، والتي قد تثير نعرات بين التونسيين، وتشعل نيران الفتنة بينهم في وقت يحتاجون فيه إلى التضامن والوحدة والتكاتف لا لمواجهة مخاطر وباء الكورونا فقط، وإنما أيضا لمعالجة أزماتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يتخبطون فيها منذ قرابة العقد...

ولا تتوقف الاحتجاجات عند مضمون المسلسل، بل تتعداه لتنتقد طرقه الفنية، وسوء إخراجه، وضعف أداء أغلب الممثلين مع أن كلفته المادية كانت باهضة بشكل مثير للريبة والشك...
والحقيقة أن محاولات تزييف التاريخ التونسي المعاصر، وتشويه شخصياته ليس أمرا جديدا، بل هي متواصلة منذ سقوط نظام بن علي في الرابع عشر من شهر جانفي-يناير. والذين يقفون وراء هذه المحاولات، والمدبرون لها سواء في السر وفي العلن ينتسبون إلى تيارات وأحزاب سياسية مختلفة، يسارية، وقومية، وإسلامية وغير ذلك. وكان الزعيم بورقيبة أول ضحايا مثل هذه المحاولات، وهذه المؤامرات الدنيئة. وهو الذي كان يلقب "المجاهد الأكبر" سواء أثناء مراحل النضال الوطني، أو أثناء بناء الدولة الجديدة، أصبح يُنْعَت من قبل من يكنون له الحقد والبغضاء ب"عميل فرنسا". ولم يكن هؤلاء السادة يترددون في الادعاء اعتمادا على حجج واهية وسخيفة على أن بورقيبة "باع ثروات تونس لفرنسا" مقابل استقلال هش، ومنقوص. وممعنين في تشويهه، زعم هؤلاء أيضا أن بورقيبة كان "قاتلا وسفاحا"، بل كفروه، وشنعوا بإصلاحاته الكبيرة خصوصا في مجال حقوق المرأة، والتعليم، والصحة، مُغيّبين تماما كل ما هو إيجابي، وموضوعي في مسيرة هذا الرجل الذي أمضى سنوات طويلة في سجون فرنسا، ومحتشداتها مناضلا من أجل حرية تونس واستقلاها.

إلى جانب كل هذا، سعت التيارات المذكورة إلى اتهام الزعيم بورقيبة بتشويه الهوية التونسية، ومحو مقوماتها الأساسية المتصلة بكل ما يمت للعروبة والإسلام بصلة. وهم يعتمدون في اتهاماتهم هذه على قرار غلق جامع الزيتونة لتفضيل بورقيبة التعليم العصري المنفتح على الحضارة الغربية، على التعليم الديني الذي كان عنصرا أساسيا في الحفاظ على الهوية التونسية في فترة الاستعمار. والحقيقة أن مثل هذه الاتهامات لا يبررها لا الواقع، ولا التاريخ. فقد تم غلق جامع الزيتونة، وتعويضه بكلية الشريعة وأصول الدين لأن مناهج التعليم فيه لم تعد صالحة في زمن كان يتطلب تكوين أجيال عارفة بالعصر، ومدركة لتحدياته ومخاطرة. وتلك المناهج كانت قد أثارت احتجاجات الطلبة أنفسهم في أكثر من مناسبة. ولو عدنا إلى مذكرات الشاعر الكبير أبي القاسم الشابي، وإلى العديد من الوثائق الأخرى، لعثرنا على ما يفيدنا بأن مناهج التعليم في جامع الزيتونة كانت منقطعة عن العصر، وعاكسة لرؤية معرفية بائسة وسطحية اضرت بالكثيرين، وتركتهم هائمين في "أودية الظلمات" بحسب تعبير الشابي.
ويتطرق مسلسل "قلب الذيب" بطريقة خاطئة ومُضللة لجانب آخر من تاريخ النضال الوطني في تونس. والواضح أن أصحابه يرغبون في أن يوحوا للتونسيين بأن زعماء الحزب الحر الدستوري كانوا سكيرين، ومتهالكين على الملذات، بل لعلهم فاقدين للحس الوطني. ومثل هذا التشويه المتعمد لا يمكن إلاّ أن يكون اجراميا بحق أولئك الزعماء الذين كانوا يتحلون بأخلاق عالية، وبروح وطنية نادرة، وبقيم إنسانية جعلتهم يتحلمون السجون والمنافي والمظالم لتكون مسيرتهم ملحمة نضالية متوهجة بالشجاعة والصبر، ومسكونة بما سماه الشابي ب"إرادة الحياة"...

وعلى أية حال، نحن نعلم جيدا أن محاولات تزييف التاريخ، وتغييب حججه الدامغة، وتشويه صانعيه، لا تكون في النهاية إلاّ مُضرّة ومُدمرة لأصحابها وللمدبرين لها...