لطالما خضع العراق، على امتداد تاريخه، للمعادلات السياسية الحادة التي حرمت شعبه طعم الراحة والهدوء، ما جعل البعض يصف هذه البلاد بأرض "العراك"، أي الأرض التي يتصارع عليها الخصوم طمعًا في خيراتها، وسعيًا إلى السيطرة على قرارها السياسي.
لو رجعنا بعقارب الزمن إلى الوراء، وصولًا إلى الحقبة الإسلامية، لوجدنا العراق ساحة ومنطلقًا لكل الصراعات السياسية والفكرية التي ظهرت في تاريخ الإسلام؛ إذ نشأت على أرضه أولى المدارس الفكرية السياسية الدينية، وبينها مثلًا الخوارج والشيعة والمعتزلة والأشاعرة والمرجئة، وغيرها من المدارس التي شكلت تاريخه القديم.

معادلة بطرف واحد
أمّا في تاريخه الحديث، فقد عرف العراق صراعات وتجاذبات سياسية حادة بين اتجاهاته وأحزابه كلها، تمخضت عنها انقلابات متتالية زعزعت استقراره وزجت به في غياهب المجهول. وكان القاسم المشترك بينها جميعًا هو التفرد بالحكم، وامتلاك الحقيقة المُطلقة، وإقصاء الآخر المخالف، بل والتنكيل به معنويًا وماديًا، وتسفيه معتقداته الفكرية والسياسية والمذهبية والدينية.
لذلك، كان تاريخ العراق عبارة عن معادلة بطرف واحد؛ أي أن الرابح واحد سواء أكان فردًا أو حزبًا أو طائفة، بحيث أنه لا مجال للمشاركة، فإما غالب أو مغلوب... لا تسويات سياسية معقولة وغير معقولة – وهذه هي ربما حال الكثير من بلاد بني يعرب - تحفظ للعراق كيانه ونسيجه الوطني الفسيفسائي المتعدد الأعراق والمذاهب والأديان؛ فالاستقطاب سيد الموقف والسياسات!

خياران لا ثالث لهما
عليه، لم يعرف العراق طعم الهدوء والاستقرار منذ عقود طويلة، وربما منذ قرون؛ حيث بقي أسيرًا لمصالح القبيلة والمذهب والحزب على حساب دولة المواطنة الحاضنة للجميع، ما أفقده هويته الوطنية الجامعة التي تحفظ لكل أبنائه حقوقهم وكرامتهم، بل زجّت به - هذه الانتماءات - في أتون صراعات داخلية تمت على أساس الهويات الفرعية، وارتهن كل مكوِّن من مكوناته لأطراف إقليمية ودولية أوهمته بعدالة قضيته حتى تجعل من عراقه ساحة لنفوذها ومصالحها؛ وبذلك أوقع ذاك العراقي نفسه ووطنه في شِراك المطامع الخارجية التي حوّلته إلى أرض للعراك بين أبنائه، وملعبًا لسياسات ومناورات القوى الأجنبية الطامعة والطامحة فيه.
يبدو لي أن العراقي سجن نفسه بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن يكون المسيطر على كل شيء في العراق، أو أن يُخرّب العراق (سياسية غالب أو مغلوب) وساعده في ذلك أطراف إقليمية ودولية شجعته على تلك السياسية وأوهمته بأنها حليفته ضد أبناء وطنه!

الكلّ ضدّ الكلّ
السؤال المطروح هنا: هل قدر العراقي أن يكون أسيرًا لخيارين بلا ثالث؟
انكشف للعراقي جيدًا كيف أن التفرّد والاستحواذ والانقسام والمحاصصة أدت به إلى ما هو عليه الآن؛ فالدم العراقي المسفوح على مذبح السياسية والسياسيين لم يجف بعد، وحيث تسود حال من الفوضى وانعدام الرؤية التي يُطلق الفيلسوف والمفكر البريطاني توماس هوبز عليها اسم "حرب الكلّ ضدّ الكلّ"، ما زالت مستمرة حتى اللحظة، يكتوي بنارها الجميع في دوامة عبثية من النفي المتبادل الذي مزّق شملهم وبدد ثرواتهم في سبيل أوهام أيديولوجية زيّنت لهم أن العصبية المذهبية أو الدينية هي الخلاص، حتى لو أدت بهم إلى قتل إخوتهم (في استعادة لمأساة قابيل وهابيل) وشركائهم في الوطن، في سبيل الفوز برضى الله وسدنة المذهب والطائفة والحزب!

هل يتعظون؟
فهل يتعظ العراقي من ذلك أم يبقى تاريخ العراق يعيد نفسه على شكل مأساة لا تنتهي؟
اذا أراد الأخوة العراقيون تجاوز هذه الثنائية (المنتصر والمهزوم) إلى أفق أرحب، فليس أمامهم إلا أن يختاروا طريقًا ثالثة توصلهم إلى تسوية وتفاهم ومصالحة بين جميع أطيافهم ومكوناتهم من أجل بناء عراق جديد وحديث يقوم على أسس المواطنة والتعددية؛ في دولة مدنية الكل فيها كاسب، لا منتصر ولا مهزوم، ولا مغلوب فيها على أمره أو معتقده.
فهل يفعلها أبناء العراق، ويخرجون من شرنقة الولاء الضيق إلى فضاء الانتماء الوطني الأرحب، ويغادرون دائرة الارتهان للأجنبي؟