كأن وباءً مميتًا لا علاج له بعد لا يكفي الناس، فتغرقنا صناعة إثارة الرأي العام بمرض أسرع انتشارًا بين الشباب، يجتاح مدن العالم: هو الاحتجاجات غير واضحة المطالب!
استغلال متعمد، ومغرض سياسيًا، لردات الفعل على موت المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد مخنوقًا نتيجة الإفراط غير اللازم في القوة من جانب شرطة مينيابوليس، عاصمة ولاية مينيسوتا.

مسألتان
الاحتجاجات لا تزال مستمرة. تظاهرات كبرى لا تزال العاصمة البريطانية لندن تشهدها في مخالفة لقانون الحد من انتشار العدوى الذي يسمح باجتماع ستة أشخاص بحد أقصى، شرط مسافة لا تقل عن مترين بين أي شخصين، وهو ما لا يمكن التزامه في التظاهرات، ما يشكل خطورة على الصحة العامة.

ما يعنيني هنا مسألتان: أولهما تتعلق بمهنة الصحافة التي عملت بها منذ ستينيات القرن الماضي، وهي أداء الوسائل الصحفية في التعامل مع الظاهرة وتلاعب كثيرها بالرأي العام. ولايليق بي التعليق على صحافة أخرى لا خبرة لي بها، لذا ساقصر ملاحظاتي على الصحافة الأنغلوساكسونية، خصوصًا البريطانية.
المسالة الثانية هي حقي كمواطن عادي في التساؤل عما يحدث في مدينتي، لندن، لمحاسبة من ينفقون الضرائب التي أدفعها للخدمات العامة من نظافة وصحة ورعاية وسائل المواصلات؛ وفي مسائلة حكمدارية شرطة العاصمة المكلفة بالأمن وتطبيق القانون.

لا تفسير مقنعًا
مهمة الشرطة حماية الأرواح والممتلكات، وحراسة التظاهرات بموازنة حقوق المتظاهرين في حرية التعبير والاحتجاج السلمي مقابل تطبيق القانون. أهم بنود القانون التي أضيفت للحد من انتشار عدوى كوفيد-19ج (ج هنا المقابل لحرف C من " المستحدث" تسمية منظمة الصحة العالمية للفيروس).

القانون يتطلب تصريحًا مسبقًا من الجهات المسؤولة لمسيرة أو تظاهرة، في هذه الحالة عمدة لندن، وهو السياسي العمالي صادق خان (معروف بميوله اليسارية وإهدار ضرائب خزانة العاصمة على مشروعات سياسية وتمويل احتجاجات ضد زيارتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب)، ومن شرطة العاصمة، وتصريحات من الإدارات المحلية للأحياء التي تمر فيها المسيرة.
في مقابلته في الإذاعات في برامج الأخبار في بي بي سي والشبكات الاخري، لم يقدم العمدة (ولا نائب إدارة الشرطة ولا رئيسة مفوضية شرطة لندن) تفسيرًا مقنعًا للسماح بالتظاهرات المستمرة لأسبوعين بدلًا من منعها بقوة قانون الصحة العامة وقانون سلامة الأمن العام، خصوصًا بعدما حدث في تظاهرات سابقة من تشويه منشآت عامة، وتشويه نصب الشهداء بشعارت بذيئة، وتعرض ضباط الشرطة وضابطاتها للاعتداء... حتى الخيل التي يمتطيها ضباط الشرطة لم تسلم من الأذى!

سؤال محير
بصرف النظر عن السؤال المحير: "كيف يساهم الاعتداء على ضباط الشرطة وتشويه نصب الشهداء في لندن أو إلقاء التماثيل في مياه البحر، في تحقيق العدالة لعائلة فلويد الذي مات بيد الشرطة في أميركا؟"، فإن الملاحظة الأهم كانت فشل الصحفيين ومقدمي البرامج في محاصرة العمدة ومسؤولي الشرطة بأسئلة حقيقية وإخضاعهم للمحاسبة والإجابة عن دوافعهم وراء السماح بتظاهرات ستؤدي بلا شك إلى المزيد من العدوى بالفيروس القاتل، ناهيك عن المزيد من الاعتداءات وتشويه منشآت وتخريبها.

في كل بلد في العالم، هناك متمردون بطبيعة نشأتهم، لن يخضعوا للقانون وسيتظاهرون، لكنهم الأقلية لا الأغلبية. فحجب التصريح لحماية الصحة العامة في زمن الوباء لا شك سيقلل كثيرًا من عدد المشاركين. وبالتالي، سيقلل من عدد المصابين، حتى لو سارت التظاهرة مخالفة للقانون، كما أن ذلك سيمنح الشرطة قوة قانونية لاتخاذ موقف أشد حزمًا مع المشاغبين. هذا السؤال لم يطرحه الصحفيون ومقدمو البرامج الاخبارية.

أهداف خبيثة
بالنظر إلى الخبرة الطويلة للصحفين ومقدمي البرامج والمذيعين والمذيعات، فإن التفسير الأكثر احتمالًا هو أنهم تخلوا عن الحيادية المطلوبة، إما خوفًا من تهمة العنصرية أو لقناعتهم بالأرثوذكسية (التي فرضتها مؤسساتهم) السائدة في الرأي العام بأن هذه التظاهرات تحت شعار "معنيون بأرواح السود" هي قضية مقدسة لا بد من دعمها بالانحياز إليها كانحيازهم إلى الأيديولوجيا المناخية بأن الصناعة والنشاط التجاري في الغرب فحسب (ليس في الصين أو الهند أو نيجريا) مسؤولان عن الاحتباس الحراري، بلا إتاحة أي فرصة لبث معلومات أو تحليلات مخالفة لرأيهم السائد.

الضغط الذي يصل إلى الابتزاز المعنوي من الوسائل الصحفية الليبرالية لباقي مؤسسات المجتمع والرأي العام لالتزام الخط الذي تفرضه هو ما دفع الشرطة، تجنبًا لتهمة العنصرية، إلى التخاذل والجبن أمام اعتداءات شباب ( يتعمد أكثرهم العدوانية والعنف تجاه مؤسسات السلطة) ينفذون أجندة سياسية خبيثة الأهداف.

الشعار "معنيون بأرواح السود" يعطي الانطباع الظاهري بأن السود وحدهم ضحية، في جوهره وغموضه عنصري؛ فهل أرواح العرقيات الأخرى كالصينيين و الابورجيين (سكان استراليا الأصليين) والهنود أرخص من أرواح السود ولا تعني أحدًا؟

المساواة أساس
كانت شعارات ومطالب حركة الحقوق المدنية في أميركا في ستينات القرن الماضي، وكان وجهها القس مارتن لوثر-كينغ (1929-1968)، واضحة ومحددة الأهداف: كانت إنهاء التفرقة بين الأجناس والأعراق، وإقرار المساواة بين الجميع، ما دفع أعضاء من الكونغرس إلى الانضمام إليها ورعايتها، في مقدمهم السناتور روبرت كينيدي (1925-1968)، وحققت الكثير من مطالبها.

كان من المستبعد أن يصبح باراك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة (2009-2017) بلا تنظيم حركة المساواة في الستينيات ووضوح مطالبها.

الملاحظ في حركة الاحتجاج الأوروبي، وفي بريطانيا بالتحديد هو غياب هدف محدد ومطلب واضح يمكن أن يصبح مانيفستو حركة سياسية تقدمية الجوهر، ويطرح البرنامج للنقاش في البرلمانات، ويناقش في ندوات علنية، وينتشر في مناطق العالم كلها.
لكن، يبدو أن للحركة في الغرب استراتيجيا غير حميدة المقاصد بانتقائية الوسائل الصحفية في التغطية. يلقون اللوم على الرئيس دونالد ترمب وإدارته في موت فلويد مخنوقًا بيد الشرطة، وتضيق حركة الاحتجاج بمناهضة العنصرية باعتبار مصرع فلويد جريمة عنصرية فقط بشعار "أرواح السود".

لا دافع عنصري
في الحادثة الأخيرة في أتلانتا التي أدت إلى مصرع شاب أسود وفصل رجل الشرطة الذي صرعه من عمله واستقالة رئيسة الشرطة، رأينا الصحافة تلوم ترمب (الجمهوري) عليها أيضًا، علمًا أن الولاية نفسها (جورجيا) والمدينة لم ينتخب فيها حاكم أو نائب جمهوري لأكثر من قرن، فهي دائمًا مع الحزب الديموقراطي.

المدعي العام لولاية مينسوتا، التي بدأت فيها الاضطرابات، أمر بالقبض على ضباط الشرطة الاربعة المشاركين في القبض على فلويد، بينهم أبيض واحد (المتهم بخنق فلويد) وهو متزوج من سيدة آسيوية، زملاؤه من عرقيات هسبانية (من أميركا اللاتينية) وآسيوية وأفريقية، أي ينتفي الدافع العنصري هنا، ويبقي فحسب، من الناحية القانونية، عنف رجال الشرطة وعدم التزامهم لائحة محددة للتعامل مع أي متهم، إن وجدت هذه اللائحة أصلًا.
قبل عشرة أيام، انتشر فيديو لرجلي شرطة دفعا رجلًا أبيض في مدينة بافلو (ولاية نيويورك) فسقط وارتطم رأسه بحجر، ففصلا من العمل.

ما قبل ترمب
أي بحث بسيط في السجلات يظهر تكرر عدوانية الشرطة وإفراطها في استخدام القوة ضد جميع العرقيات، لا السود فحسب. وهذه ظاهرة قديمة تكررت في أثناء إدارات باراك اوباما (2009-2017)، وجورج بوش الابن (2001-2009) وبيل كلينتون (1993-2001) وسابقاتها، أي عقودًا قبل خوض ترمب معترك السياسة.

التركيز على العنصرية، ثم قضايا فرعية كإزالة تماثيل من العصر الكولونيالي، يحول الانتباه عن قضايا أكثر أهمية، كضرورة إخضاع الشرطة للمحاسبة عند عدم التزام كتاب إرشادات محددة للتعامل مع الأفراد أو استخدام السلاح. والأهم أيضًا أنه يحول الانتباه عن ضرورة إجراء دراسة عن السبب الأساس، وهو العنف الكامن في أعماق الشخصية والمجتمع الأميركيين (بلد لا يزال في مرحلة الطفولة مقارنة بتاريخ الأمم) حيث تساوي مادتي الدستور (الأولي والثانية) حق المواطن في حرية التعبير بحقه في حمل السلاح.