من كتاب د. نسيم قزاز "تاريخ يهود العراق المعاصر" الذي صدر حديثا عن رابطة الجامعيين اليهود المنحدرين من العراق في إسرائيل – 2020

مقدمة

في 1 و2 حزيران 1941 (قبل 79 سنة) تعرض يهود بغداد لما يسمى بمذبحة الفرهود والتي راح ضحيتها نحو 180 قتيلا من أبناء الطائفة اليهودية الوادعين وأكثر من ألفي جريح وما يقارب 40 ألفا من الذين نُهبت أموالهم وفُرهدت بيوتهم.

يوميات ابراهام توينا وهو شخصية عاصرت صميم الأحداث حيث كان في مركز إدارية تسلط الأضواء على جوانب شتى من حيثيات تلك المجزرة الرهيبة التي لم يتطرق إليها كاتب أو باحث من قبل. نشرت هذه اليوميات لأول مرة باللغة العربية كترجمة من العبرية من قبل الباحث والمؤلف د. نسيم قزاز في كتابه اعلاه وننقلها هنا للقراء للأمانة التاريخية.

د. خضر (ديفيد) بصون

الجزء الثاني من اليوميات – يوما الفرهود

1 حزيران/يونيو

اليوم الأحد، هو اليوم الأول من "عيد الأسابيع"، في الساعة العاشرة صباحاً تجمع شباب لاستقبال الوصي عبد الإله، ووصل بعضهم الميناء الجوي وعادوا منه، بينما لم يصله آخرون. وكانوا جميعهم مرتدين ملابس العيد وسحنات وجوههم تدل على الاغتباط والفرح، فتعرض لهم رعاع مسلمون ورجموهم بالحجارة وجرح أحدهم بجروح خطيرة، ثم تدخلت الشرطة وقضت على أعمال الشغب.

في الساعة الثانية بعد الظهر بدأ اليهود يخرجون من محلات سكناهم القديمة إلى الأحياء الجديدة لزيارة أقاربهم أو للتنزه في المقاهي للتخفيف من التوتر. ولم يطرأ على مسامعهم شيء مما حدث في الصباح بجانب الكرخ. وتجمع عند باب الشيخ محرضون ورعاع من صفوف "كتائب الشباب" وجنود مندحرون وطلاب متهوسون، وأوقفوا سيارات الباص وجرّوا الركاب اليهود منها وأردوهم قتلى.

عُدتُ من المخزن إلى البيت في الساعة الثانية ورأيت شارع الرشيد هادئاً ولم تصلنا أية معلومة.

في الساعة الرابعة خرجت من الدار ورأيت مدير الشرطة حسام الدين جمعة مع أحد أعضاء "لجنة الأمن" نازلاً من سيارته ويأمر أفراد الشرطة بمنع الناس من التجمهر. ومن بعيد سمعت أًصوات إطلاق عيارات نارية. وصلت "محلة البتاوين" ورأيت المقاهي مليئة باليهود، فنزل أحد اليهود من سيارة باص وملامح الخوف على سماته وأخبرنا عن الذي يحدث في "باب الشيخ"، فأوصلنا الخبر بهدوء لكل رواد المقاهي محذرين إياهم أن لا يركبوا الباصات وأن لا يسيروا مجتمعين مع بعضهم ويمتنعوا من العودة بطريق شارع غازي. وعند الساعة الخامسة والنصف خلت المقاهي من روادها، ومن لم يتمكن من العودة إلى منزله لقي حتفه في شوارع المدينة. وفي الليل سمعنا الصراخ يتصاعد من الأحياء اليهودية القديمة. ولم يستتب الهدوء إلا بعد الساعة الثانية من منتصف الليل.

عاد الرعاع في اليوم التالي في الساعة الثامنة والنصف للبدء بالمجزرة مجدداً.

2 حزيران/يونيو

أبلغتني الشرطة يوم أمس بوجوب حضوري في "مدرسة راحيل شحمون" في الساعة السابعة من صباح اليوم بغية فتح الدواليب والخزانة التي كانت تحت تصرف "كتائب الشباب". خرجت من الدار في الساعة السادسة صباحاً، ورأيت في الشوارع آثار دماء. وعند وصولي إلى المدرسة وجدتها مغلقة. وتطلعتْ إلى إحدى الجارات من الشباك وسألتني، كيف تجرأت على الخروج من الدار والمجيء إلى هنا؟، وأضافت، لقد تجمهر هنا أثناء الليل شباب وبيدهم البنادق والمسدسات ومد لهم يد العون الحارس المسلم... فلم أرَ بداً إلا الرجوع إلى منزلي بالسرعة الممكنة... وفي الطريق رأيت موظفين يهوداً في طريقهم إلى محلات عملهم (عيد الأسابيع ليس من الأعياد الرسمية).

يقع محل سكناي في حي مختلط في "شارع النهر"... وعندما اقتربت نحو 400 متر من منزلي لمحني جاري...واتجه نحوي قائلاً إنه سيرافقني حتى الدار ونصحني أن نوصد الباب ولا نفتحه لأي كان.

وفي تلك الأثناء جاءنا أقارب تركوا منازلهم وطلبوا اللجوء عندنا. وفي الساعة الثامنة هرب ثلاثة موظفين يهوداً من محلات أعمالهم القريبة منا ولجأوا إلينا. وكنا نسمع أزيز إطلاق النار في الخارج، فجلسنا مرتجفين من الخوف. وفي الساعة التاسعة جاءنا أحد الجيران ونصحنا بأن نفتح باب الدرج المؤدي إلى السطح، كي نتمكن من الصعود إلى سطح الدار والعبور إلى منزله في حال لم يتسنَ لنا منع الرعاع من اقتحام الدار.

كان في زقاقنا أربع عائلات يهودية وأربع مسلمة، وكانت أحداها تكره اليهود وشبابها كانوا يهددوننا طيلة الشهر.

في الساعة العاشرة والنصف صباحاً اقتحم الزقاق نحو 50 رجلاً، وانتصب أمامهم جاري، المختار البالغ من العمر 65 عاماً مخاطباً إياهم: "لن تمروا من هنا إلا على جثتي الهامدة"، وانضمت العائلات الأخرى إلى جانبه وخاطبوا الرعاع مرة بلسان طيب وأُخرى بالتهديد إلى أن غادروا الزقاق. وتبين لنا فيما بعد أن الجيران المناوئين لليهود هم الذين وجهوا الرعاع نحونا.

جاءنا، في الساعة الحادية عشر، جاري وأخبرني: "حتى هذه الساعة كنتم انتم الوحيدين في خطر ومن الآن وصاعداً جميعنا في خطر، إذ أن البدو المتواجدين حول المدينة بدأوا بالدخول إليها باغين النهب والسلب وهم لا يعرفون التمييز بين يهودي ومسلم".

بدأت في الساعة الثامنة صباحاً جماعات الشغب تتوافد، وكانت أعمالهم في غاية التنظيم، وأزال أفراد الشرطة الأرقام والعلامات من على أكتافهم وبدأوا بإطلاق النار واقتحام البيوت. وكانت تعليماتهم تشير بالقتل فقط، وهذا ما حصل في الشوارع التي يقطنها اليهود. وكان اليهود على علم بتلك التعليمات فتهيأوا طيلة الليل للدفاع عن النفس، وجمعوا الحجار الثقيلة وحملوها إلى سطوح ديارهم، وكذلك هيأوا زفتاً وزيوتاً ساخنة وأعدوا أسلحة يدوية بسيطة...وفرح بعض اليهود السذج عندما رأوا أفراد الشرطة، ففتحوا بوجههم الأبواب ولم يدركوا أنهم من المتلبسين بالجريمة.

انتظمت "كتائب الشباب" طيلة الليل مع أفراد الجيش الفارين من جبهة القتال، وقابلهم اليهود بمقاومة ما، ووفر نمط بناء البيوت في بغداد والسطوح المتلاصقة والمسطحة النجاة للكثير من اليهود ومنع سقوط ضحايا أكثر، إذ مكنتهم تلك السطوح من الفرار والعبور من سطح إلى آخر والفوز بالحياة.

كان حافز النهب قد حدّ لدرجة ما من أعمال القتل، لأن المجرمين أخذوا بالدرجة الأولى يفتشون في الخزانات والدواليب قبل التفرغ للقتل. ثم اتجهوا إلى "شارع الرشيد" بغية النهب، قبل أن يسبقهم آخرون.

كانت محلات اليهود وحوانيتهم في شارع الرشيد قد وسمت طيلة شهر أيار بعلامة حمراء. ونهبت في هذا الشارع جميع المحلات والحوانيت العائدة لليهود، ما عدا محليين منع نهبهما جيران لهم، ربما أرادوا أن يحظوا بهما لأنفسهم. استمرت أعمال النهب أربع ساعات، حتى الساعة الثانية بعد الظهر تقريباً، حين دخل الجيش ورابط في أماكن عديدة.

في الساعة الثانية عشر أذاع الراديو أن الجيش دخل المدينة مزوداً بصلاحيات إطلاق النار على كل من يحاول اقتحام بيت أو حانوت. فلاذ المشاغبون بالفرار والتستر.

في الساعة الخامسة أعلنت دار الإذاعة أن الوصي قد عيّن جميل المدفعي رئيساً للوزارة، وبدوره أعلن المدفعي أن الحكومة ستعاقب، من دون رحمة، كل من يمس الآخرين بسوء أو يتعرض للأموال، وفرض منع التجوال من الساعة الخامسة بعد الظهر حتى الساعة السابعة صباحاً. وفرح اليهود بخبر تعيين المدفعي رئيساً للوزارة لأنه كان رجلاً إنسانيا لا يكره اليهود.