لامني صديق عزيز على عزوفي عن التعليق والكتابة حول الأحداث "الساخنة" التي تعيشها تونس هذا الصيف...

وقد يكون على حق...فأنا لم أفعل ذلك منذ أشهر...

والسبب هو أني كلما حاولت أن أعلق كتابيا عن هذا الحدث أو ذاك، ينتابني شعور بالقرف والاشمئزاز(بالاعتذار من الكاتب اللبناني الياس خوري) تجاه الواقع المرير الذي تتخبط فيه بلادي منذ عشرة أعوام، والذي ازداد تعفنا خلال الأشهر الأخيرة ليجد التونسيون أنفسهم امام آفاق مسدودة على جميع المستويات...

وفي كل مرة أحاول فيها الكتابة أو التعليق عن هذا الحدث أو ذاك، أجدني عاجزا ومشلولا وفاقدا للقدرة على اختيار الكلمات والعبارات المناسبة...
ولعل الصديق أخطأ في وصف الأحداث التي تعيشها تونس راهنا ب"الساخنة" ... إذ لو كانت هذه الأحداث "ساخنة" بالفعل، لتحمست للكتابة عنها، ولوجدت نفسي متابعا لها يوما بيوم وساعة بساعة ولحظة بلحظة. إلاّ أن هذا الأحداث ليست لا "ساخنة"، ولا "باردة" بل مقرفة ومنفرة وعاكسة لتفاهة الفاعلين فيها، ولسقوطهم الأخلاقي، ولانعدام كفاءتهم السياسية والثقافية...

وكيف لي أن أكتب عن رئيس برلمان يسلك سلوك "شيخ القبيلة" الذي لا هدف له سوى زرع الخلافات، واشعال فتيل النزاعات، واذكاء الأحقاد بين النواب، مستعينا بأنصاره الذين يُشرّعون أفعاله وأعماله بمختلف الطرق والوسائل، وهم دائما على استعداد لاستعمال العنف اللفظي والمادي ضد خصومهم ومنتقديهم؟؟؟
وكيف لي أن أكتب عن رئيس برلمان يتجاوز صلاحياته ليتدخل في ما لا يعنيه، جارا البلاد إلى ما لا تحمد عقباه. وعندما يقع تنبيهه إلى هذا الخطأ أو ذاك يرد بما يعني أنه ليس فقط رئيسا للبرلمان، وإنما هو "رئيس لكل التونسيين". لذا هو "حر فيما يفعل، وفيما يقول". فإن اشتدت محاصرته بالأدلة والحجج القاطعة، فر هاربا، أو كتب إلى وزير الداخلية طالبا منه "تأديب "أعداء الثورة والديمقراطية"...
وكيف لي أن أكتب عن نواب انتخبهم أنصارهم لكي ينكبوا على معالجة مشاكلهم وقضاياهم وهمومهم إلاّ أنهم أهملوا كل هذا لينشغلوا بتزوير التاريخ، وهتك أعراض الشخصيات الوطنية الكبيرة التي نذرت حياتها لتحرير تونس من الاستعمار، ولبناء الدولة الوطنية، مُتفننين بالخصوص في شتم الزعيم بورقيبة بأقذع الشتائم ليصبح على ألسنتهم القذرة "عميلا"، و"سفّاحا"، و"طاغية" ناسين أنه بنى المدارس والجامعات لتثقيهم وتعليمهم مبادئ التحضر والتمدن والاعتراف بالجميل لكل من أحسنوا للبلاد والعباد...

وكيف لي أن أكتب عن نواب يسمحون لأنفسهم ببيع وطنهم في المزاد العلني، ممجدين "خصال" و"كرامات" من احتل الشقيقة ليبيا ليشعل فيها فتنا قاتلة ومدمرة...وقد يدفعه الغرور وجنون العظة غدا أو بعد إلى غزو بلادهم، وتخريبها، وتشتيت أبنائها ليصبحوا يتامى مشردين في مختلف أصقاع الأرض...

وكيف لي أن أكتب عن نواب جعلوا من التهريب مهنة يومية لتخريب الاقتصاد الوطني، وتشريع الغش، والتحيل، وعن آخرين غارقين في الفساد إلى العنق لكنهم يسمحون لأنفسهم بالاستشهاد بالآيات البينات لتبرير جرائمهم، وأفعالهم الدنيئة...

وكيف لي أن أكتب عن انتهازيين كانوا بالأمس خدما طيعين لنظام بن علي، ثم تحولوا بقدرة قادر إلى "ثورجيين" يرفعون الهراوات والسيوف أمام سياسيين ومثقفين نزهاء باعتبارهم من "أنصار" الثورة المضادة"، ويهددون بعقاب أليم كل من يسعى إلى فضح ماضيهم الأسود، وكشف ملفاتهم الرمادية، والطعن في " ثورجيتهم المجيدة"...

وكيف لي أن أكتب عن خونة وعملاء وجهلة أصبحوا يمسكون بمقاليد الدولة، ويتحكمون في مؤسساتها، وفي مصير شعبها، ويبيحون لأنفسهم الاعتداء على المؤسسة الأمنية والعسكرية، ويدعون إلى العنف جهارا متحدين القوانين، والدستور الجديد الذي ساهموا في اعداده...

كيف لي أن أكتب عن نساء غُسلت أدمغتهن في بلاد الطاهر الحداد والشابي وبورقيبة لكي يصبحن من أنصار من يلفهن في العباءات السود، ويحرمهن من الحرية، ومن أدنى متع الحياة باعتبارهن "ناقصات عقل ودين" ، و"أوعية جنسية" فقط لا غير ...
كيف لي.