الجزيرة السورية، أو ما بات يعرف بـ(منطقة شرق الفرات)،الخاضعة لسيطرة ما تسمى بـ" قوات سوريا الديمقراطية - قسد) المقادة كردياً والمدعومة أمريكياً، شهدت في الأشهر الماضية مظاهرات احتجاجية تطورت الى (مواجهات دامية) بين مسلحي (قسد) و(أبناء العشائر العربية) المستائين من سياسة التهميش و تردي الوضع المعيشي والخدمي والأمني في مناطقهم وسوق الشباب بالقوة للتجنيد والقتال في صفوف قسد واستبدال (مناهج التعليم) الحكومية، بمناهج "الادارة الذاتية " الكردية، الغير معترف بها وبمناهجها ، التي تروج لـ(المشروع الكردي) من خلال إدراج خريطة ما تسمى بـ"كردستان الكبرى" تضم مناطق واسعة من سوريا. اغتيال مشايخ عرب في ريف ديرالزور الشرقي، زاد الوضع توتراً واحتقاناً. وجهاء العشائر، في بيانٍ لهم، حملوا (المحتل الأمريكي) و(قوات سوريا الديمقراطية – قسد) مسؤولية اغتيال مشايخهم والفوضى الأمنية . طالبوا بتشكيل (لجنة) تحقيق لمعرفة الجناة وتسليمهم للعدالة، وتسليم إدارة منطقة دير الزور إلى "أصحابها" العرب . في حين اتهمت قيادة (قسد)، النظام السوري وخلايا (داعش)، بالوقوف خلف عملية اغتيال المشايخ و استهداف مقاتلي قسد، بقصد إثارة الفتن والفوضى في المنطقة .

دخول النظام السوري وحلفاءه على خط النزاع ودعمهم لتشكيل (جناح عسكري) للقبائل، توكل اليه مهمة مقاومة (المحتل الأمريكي) و(قسد) ، دفع بالقائد العام لقسد (مظلوم عبدي) لتكثيف لقاءاته مع وجهاء ومشايخ القبائل والعشائر العربية، والحديث عن مرحلة جديدة من الانفتاح والعمل الجاد على تلبية احتياجات سكان المنطقة وضبط (الوضع الأمني) . في ذات السياق (إلهام أحمد)، القيادية في (مجلس سوريا الديمقراطية – مسد)- الجناح السياسي لقسد - قالت " إن الحوار الداخلي بين أبناء ومكونات المنطقة بات أمراً عاجلاً وضرورياً لتعزيز دور الإدارة وتقويتها، بعد توجيه انتقادات حول أدائها ومناشدات بتطويرها ". إلهام ، تحدثت عن الحاجة " لتوسيع الإدارة الذاتية وتطويرها ووضع ميثاق وطني جديد " .

وقفة العشائر العربية بوجه قسد وداعمها (المحتل الأمريكي) ورفضها لما يمارس بحقها من تهميش وإقصاء ، جعل (حزب الاتحاد الديمقراطي)، له تتبع (قسد ومسد) ، يستشعر خطر التمرد العربي ويدرك باستحالة تجاوز (المكون العربي) في تقرير مصير ومستقبل منطقة الجزيرة ، حيث يشكل العرب الغالبية الساحقة من سكانها . لكن، من غير المعروف ، فيما إذا كانت وعود قادة (قسد ومسد) هي مقاربة جديدة وجدية للحالة العربية وللوضع في الجزيرة السورية عموماً ؟؟ . أم إنها مجرد (تكتيك و مناورة ) لاحتواء غضب الشارع العربي ولاستمالة العشائر العربية الى جانبها لتمرير (الاتفاق النفطي) الذي وقعه القائد العام لقسد (مظلوم عبدي) مع (شركة نفطية أمريكية) لتطوير واستثمار حقول (النفط والغاز) في المناطق الخاضعة لسيطرة قسد ؟؟. تراجع ترامب عن قرار سحب قواته من سوريا، مع فرض(حظر جوي) غير معلن على الطيران الحربي السوري في منطقة (شرق الفرات)، فتح شهية أكراد الجزيرة على ما يرفضه عربها وآشورييها وبقية مكوناتها. بمعنى آخر، تعزيز أمريكا لوجودها العسكري في سوريا وربط رحيلها بالحل السياسي للأزمة السورية ووفق شروطها ، دفع الأكراد للتشدد بموقفهم ورفع سقف مطالبهم وأحلامهم وصولاً الى مطلب (الانفصال) ، وفق ما جاء في (وثيقة التفاهم) بين ما تسمى بـ(احزاب الوحدة الوطنية) بزعامة الاتحاد الديمقراطي وأحزاب (المجلس الوطني الكردي) " منح الأكراد السوريين جميع حقوقهم القومية ، بما فيها حق تقرير المصير". هل من تفسير لـ"حق تقرير المصير" سوى " الانفصال" ؟؟. رغم الشكوك بالنوايا الأمريكية تجاه المستقبل السياسي للأكراد ورغم تواطؤ (إدارة ترامب) مع تركيا في عدوانها واحتلالها لكثير من المناطق السورية الحدودية كانت بيد الأكراد، عاد(حزب الاتحاد الديمقراطي)، من جديد ووضع جميع بيضاته في (السلة) الأمريكية. أكراد البيدا يتأملون من (صفقة/ الاتفاق النفطي) ، أن تكون خطوة و مقدمة لاعتراف (سياسي) أمريكي بإدارتهم الذاتية، التي باتت (دويلة) داخل (الدولة السورية) بفضل الحماية الأمريكية.

يبقى اللافت في المشهد الكردي، أن (أكراد البيدا) ليسوا على (قلب رجل واحد) فيما يخص العلاقة مع الأمريكان والموقف من النظام السوري. الاتفاق النفطي الذي وقعه (عبدي) مع (شركة نفطية) أمريكية، والذي جاء مخالفاً لكل القوانين والأعراف الوطنية والدولية، كشف عن وجود (خلاف عميق) بين قيادة (حزب العمال الكردستاني – pkk ) ، وبعض قيادات فرعه السوري( حزب الاتحاد الديمقراطي- pyd ) . الرئيس المشترك لـ(منظومة المجتمع الكردستاني) (جميل بايق) ،القائد الفعلي لـ(حزب العمال الكردستاني)، وفق مصادر كردية، في مقابلة له مع فضائية (ستيرك) التابعة للحزب، أعلن عن رفضه للاتفاق النفطي . قال : " الاتفاقية غير قانونية، ومن حق الحكومة السورية رفضها " . موقف بايق يأتي متوافقاً مع موقف الحكومة السورية، ولا يخلو من رفضٍ وتحدي لـ(السياسة الأميركية) في سوريا . وفق ذات المصادر الكردية،(مظلوم عبدي)، القائد العام لـ (قسد)، بتشجيع أمريكي، يسعى للانفصال عن حزب "العمال الكردستاني"- المصنّف على لوائح الارهاب الأمريكية – الأوربية - ليصبح(عبدي مع قواته) جزءاَ من المشهد السوري، بشقيه العسكري والسياسي. لهذا من غير المستبعد أن تقوم قيادة (pkk) بعزل(عبدي)، قبل أن يستكمل خطواته الانشقاقية عن الحزب، الذي نشأ وترعرع في مدارسه (الفكرية والسياسية والعسكرية).

ما يحصل في الجزيرة السورية لا يمكن فصل أو عزله عن صراع القوى (الاقليمية والدولية) الفاعلة في الأزمة السورية، خاصة تلك المحتلة لأجزاء من سوريا. في إطار هذا الصراع يمكن إدراج تشكيل ما سمي بـ ( جبهة السلام والحرية)، التي اعلن عنها يوم 28 تموز الماضي ، تضم كل من ( المجلس الوطني الكردي - تيار الغد السوري - المنظمة الآشورية الديمقراطية - المجلس القومي العربي لأبناء الجزيرة والفرات). تشكيل هذه الجبهة، يندرج في اطار محاولات تركية ،قديمة جديدة، لإيجاد تكتل (سياسي- عسكري)، مرتبط بها، يوازي وينافس تكتل (قوات سوريا الديمقراطية – قسد )، التي تقودها وتهمين عليها ما تسمى بـ"قوات حماية الشعب الكردية"، الذراع العسكري لـ (حزب الاتحاد الديمقراطي) ، تعتبره تركيا "منظمة ارهابية" والذراع السوري لعدوها الداخلي( حزب العمال الكردستاني). طبعاً، لأكثر من سبب وسبب ، لا يمكن لجبهة (السلام والحرية) أن تنافس أو تزاحم قسد في ميدانها ، وأن تحقق الغاية التي وجدت من أجلها.
الآشوريون (سرياناً كلداناً) يشكلون المكون الثالث بعد العرب والأكراد في الجزيرة السورية. ليس سهلاً عليهم أن يجدوا اليوم أنفسهم ضحية صراع (عربي – كردي) على (الجزء السوري) من موطنهم التاريخي(بلاد ما بين النهرين). رغم تراجع وانحسار الوجود الآشوري، كان يمكن للآشوريين أن يشكلوا رقماً فاعلاً ومؤثراً في مسار الصراع وفي تقرير مصير ومستقبل جزيرتهم. لكن للأسف اصطفافاتهم الغير مدروسة والغير محسوبة ، انقساماتهم وتشرذمهم السياسي، بين النظام و المعارضة وسلطة الأمر الواقع الكردية وبقية الأطراف والقوى السورية، جعلتهم تابعين عاجزين (مسلوبي الارادة والقرار) و خارج (اللعبة السياسية) التي تدار في المنطقة. كان يمكن للآشوريين أن يحافظوا على استقلالية قرارهم ، لو توحدت قواهم وأحزابهم ومنظماتهم وتجمعاتهم وفعالياتهم القومية والسياسية في مقاربتها للأزمة السورية وتبنت خطاب(وطني - قومي) موحد، بعيداً عن الاصطفافات والتكتلات، خاصة العسكرية منها، مستقلاً عن خطاب السلطة والمعارضة. كان المنتظر والمفيد (خطاب آشوري) يتمحور حول المسالة الوطنية السورية وحول قضية الآشوريين السوريين وحقوقهم المشروعة. للأسف، هذا لم يحصل . بقيت الأحزاب والتنظيمات السريانية الآشورية، مفصولة عن الواقع الآشوري ، أسيرة مصالحها الحزبية الضيقة. بالنسبة للمجتمع الآشوري ، الغير متحزب، فقد ثقته بالجميع . بالسلطة والمعارضة ، بالقوى العربية و الكردية والسريانية الآشورية. مع انسداد أفق (البديل الوطني الديمقراطي الليبرالي) في سوريا ، تبقى خيارات آشوريي ومسيحيي الجزيرة السورية محدودة ، أحلاهما مر . إذا ما خرجوا من تحت (الاستبداد العربي) ، ينتظرهم (الاستبداد الكردي).
. باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]