شغفت هذه الأيام بمتابعة بعض الأفلام في موقع " يوتيوب " التي يقوم مصورها كل مرة بزيارة الى بلد من بلدان العالم ويرصد شوارعها وبناياتها وحدائقها وأحيائها وأهم معالمها. وصعقت وأنا أرى شوارع جميع بلدان العالم نظيفة ومحلاتها أنيقة وبيوتها مرتبة. فلا إزدحام سير ولا إختناق مروري حتى في المراكز الرئيسية. مقاهي تنتشر على امتداد الأرصفة، ساحات عامة مكتظة بالناس نصبت فيها مقاعد مريحة. متنزهات وحدائق بأشجارها الباسقة تسر الناظرين.
أشد ما لفت إنتباهي هو عدم وجود أي منظر قبح في معظم هذه المدن والعواصم، فلا لافتة نصف ممزقة بأي مكان، ولا بقايا لصور مرشحي البرلمان، ولا صور كبيرة لساسة أو معممين، ولا نشر للغسيل في الأسطح أو الشرفات !. لا " تنكة " مبعجة متروكة على الرصيف، ولا غلاف سجائر مرمية في زوايا أي مكان !. لا حجر ولا خشب ولا علاكة ولا حتى قطعة ورق مرمية في الشوارع !.
لا زيادة ولا نقصان في البنايات، كلها كأنها لوحات رسمها أبدع رسامي تلك البلاد، عمارات شاهقة تناطح السحاب ونوافذها تلمع في السماء كنجمة ذهبية !. لا صحون ولا أطباق الستلايت تغزو السطوح.. بإختصار شديد، لاشيء زائدا هناك. كل شيء عندهم بمقدار، أناقة وجمال وبهاء وروعة ما بعدها روعة..
تذكرت قول أمامنا الشيخ محمد عبده بعد أن عاد من بعثة فرنسا أوائل القرن الماضي، حين سألوه عما رأى هناك؟. فأجاب " رأيت الإسلام ولم أر مسلمين، وهنا أرى مسلمين ولكني لا أرى الإسلام ". وصدق الإمام.. فالاسلام يدعو الى النظافة وحسن المظهر حتى عند الدخول الى المساجد، ومع ذلك ترانا من أقذر شعوب الله على الأرض !.. ففي بلادنا نحن المسلمين، عربات قذرة نعرض عليها غذاء يومنا !. وكما قال أحد الأوروبيون ذات مرة مستغربا " يعرضون الأحذية داخل الزجاج، ويعرضون اللحوم على قارعة الطريق " !.
تتراكم النفايات عند حاويات القمامة لأيام قبل أن تلتفت البلدية الى رفعها !.. نسقف دكاكيننا بالمشمعات الزرقاء القذرة ولا نغسلها لأعوام !. كل صاحب محل يتجاوز على الرصيف بمساحة مترين أو أكثر يعرض عليها بضاعته والناس تضطر الى المشي وسط الشوارع !. زجاج النوافذ في المنازل يعلوها التراب لا أحد ينظفها !. عامل المطعم يمسح الموائد بخرقة قذرة لا يغيرها طوال اليوم !. بائع الخضرة يرمي زبالته وسط الشارع ولا يبالي !. بائع الفلافل والساندويجات يفترش الأرض قرب الكراجات !.
ومما زادنا هما على هم، هي " التكتكات " التي تشوه مناظر شوارعنا وكأننا في بنغلاديش !. لا ميترو ولا خطوط الترام !. لا سكك حديد ولا باصات حديثة للسفر بين المحافظات !. لا منتزه جميل ونظيف ولا بلاجات !. المولدات تقذف سمومها وتحرم الناس من النوم بضجيجها !. لا مستشفيات نظيفة وحديثة !. لا خدمات مصرفية محترمة !. إزدحام خانق عند إستلام الرواتب، متقاعدين وموظفي الدوائر !. فكل قاذورات العالم تجمعت عندنا ونحن نمتلك ثروات لا يمتلكها غيرنا !.. خيرات الأرض عندنا، نفط وأنهار وسدود وأراضي خصبة للزراعة، مع ذلك نحن أفقر شعوب العالم !. نستورد الطماطم والخيار من الخارج ونرمي منتوجنا المحلي في الزبالة !..
في الثمانينات وفي خضم الحرب القاسية للنظام، كنا نصحو في الصباح ونجد شوارع بغداد تلمع من النظافة، فنتنسم الهواء العليل و نتمشى في شوارعها ولا نشبع.!. فلماذا يا رب العالمين تعاقب هذا البلد الذي ماضيه كان حضاريا، وحاضره زفت، ومستقبله مجهول !. ماذا فعلنا يا رب حتى تسلط علينا شراذم الناس وحثالاتهم يخربون بلد الحضارة والاشراق؟؟. بماذا أجرمنا يا رب حتى تسقط علينا هذا العذاب الأليم؟؟
متى سنصل الى حاشية ما وصل اليه الآخرون حتى في البلدان الفقيرة البعيدة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا !.
نعم.. صدق الإرهابي الذي فجر نفسه حين قال " هم يحبون الحياة، ونحن نحب الموت ". هذا هو الموت، فهنيئا لكم أيها الأموات الأحياء !. وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون..