لكي لانظلم الحاضر بالتفسيرات والتحليلات النظرية حول الإلحاد، ونشعل القضية بنار ذات لهب، دون استحضار الماضي التاريخي والاجتماعي بأحداثه المتوالية، لأن الإلحاد ظاهرة تاريخية لا ترتبط بزمن محدد، إنما هي مرتبطة بمسببات بنيويّة مجتمعية وسياسية، وخلل في النظام الاجتماعي والديني. وكما هي هكذا في مساراتها، فإنها أيضا لا ترتبط بدين معين، ولا بجغرافية بلد شرقي أو غربي، إنما هي إرهاصات حياتية ولدت مع المولود الأول، والتبشير الديني الأول، والمعرفة الأولى.

الإلحاد في التاريخ قديم قِدَم الدين نفسه، ولكنه كان غالبا ما ينحصر في المثقفين والفلاسفة، ولم يكن يعبّر بالتالي عن كتلة مؤثرة في المجتمعات القديمة، كما شكّل الإلحاد العربي طوال التاريخ الإسلامي ظاهرة انحصرت بالفلاسفة والمفكرين، ثم تحول إلى حركة شعوبية يطلق عليها (حركة الإلحاد الجديد)، هدفها كما قالت جعل العلم مذهبا شاملا بمقدوره الإجابة على كلّ الأسئلة التي حاول ومازال يحاول الإنسان الإجابة عليها؛ من نشأة الكون ووجود الإله، إلى نشأة الإنسان ومصيره، بل إلى وضع تصّور كامل للمجتمعات.

فجأة استيقظ العرب على صوت الإلحاد، سواء كانت مفرقعات صبيان، أو قنابل حقيقية، لتبدأ معها التفسيرات والتأويلات ولغة المؤامرات، حيث كانت البداية كما يرى بعض الكتاب محاولات لتجاهلِ الأمر وتسخيفه واعتبارِهِ "مبالغةً إعلاميةً" ضمن المؤامرة الكونية على الإسلام، ولاحقاً بدأ اتهامُ الملحدين بما يقلِّلُ من أهمية ما يحدُثُ، فقالوا: مدفوعٌ لهم، وقالوا: دخل الشبابُ في الإلحاد رغبةً في التفلُّت الأخلاقي، وقالوا: أمراض نفسية.. إلخ، وآخرون لم يروا فيه ظاهرة الحاديّة حقيقية، وإنما هي "إلحادية معرفية أو ثقافية"، وهي موجة مجتمعية عابرة، تذكرنا بالظواهر ذاتها في مرحلة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لكنها على العموم أصبحت ظاهرة لا يمكن تجاهلُها أو تجاهُل أسبابها.

دعونا نحلل بلغة العقل والحكمة، ما قيل وما يقال عن الإلحاد العربي، الذي أثار نقاشا حاداً في المنطقة العربية، حيث بدأ يتناسل في بلدان صنعت مفاقسه، وأخرجت لنا (كتاكيت) تنتظر الطيران، وشيدت لهم أمكنة تساعدهم على التناسل المتوالي، والتفقيس الاصطناعي، والتجول في حارات المدن العربية، خلسة وعلنا، وفي فضاءات العالم الافتراضي الجديد على المكشوف، حيث وفرت للشباب المغرَّر بهم مساحات كبيرة من الحرية أكثر أماناً للتعبير عن آرائهم ووجهة نظرهم في رفض الدين، بعيداً عن المحاذير التي تخلقها الأعراف الدينية والاجتماعية، حتى وصلنا إلى مرحلة تكوين جماعات اجتماعية للإلحاد، ومواقع اتصالية تفتخر بوجودها العلني، وتكسر حواجز ظلّ يُنظر إليه من (التابوهات) المحرمة، بل صارت تبشر بأفكارها دون قيود وتوجس ومحرمات!

بمنطق الواقع العربي وتحليل خريطة العقل العربي، فإن هناك ثلاث مجموعات للملحدين، حسب دار الإفتاء المصرية، هي أولا: الذين لا يعترضون على الإسلام كدين ولكن يرفضون (أسلمة السياسة) وينادون بدولة علمانية. وثانيا: الذين يرفضون الإسلام كدين تماما. وثالثا: الذين تحولوا من الإسلام إلى دين آخر. ومع ذلك يفرق علماء الأديان واللاهوت بين الإلحاد واللادينية واللاأدرية، فالإلحاد إنكار لوجود الرب، أما اللادينية فهي إنكار المصدر الإلهي للأديان، فكل ملحد هو لا ديني بالضرورة، والعكس غير صحيح، أما اللا أدري فهو الذي يتوقف عند سؤال وجود الخالق ويزعم أن الإجابة عن هذا السؤال غير ممكنة!

عراقيا كنموذج، وبعيدا عن تنظيرات على الوردي وعلماء الاجتماع، فإن الشخصية العراقية لم تعرف التطرف الديني بشكله العميق، مثلما يحدث اليوم بنيويا ووظيفيا في الحياة الاجتماعية والسياسية، خاصة بعد أن تغلغل الإسلام السياسي في الحياة الخاصة والعامة، فازداد عدد الملحدين في العراق بوتيرة سريعة بسبب فساد الطبقة السياسية المحسوبة على التيارات الإسلامية، كما ازدادت بقوةٍ الدعوة إلى الدولة المدنية لا الإسلامية (لا سنية.. لا شيعية.. دولة مدنية)، بل أصبحت ظاهرة انتشار لبس العمامة من مظاهر الانحراف عن القانون وتدمير السلطة!

وخلال الأعوام الخمسة الأخيرة، باتت التحذيرات التي يطلقها رجال دين وساسة من انتشار ظاهرة الإلحاد في المجتمع العراقي، ولاسيما الشبان، أمراً مألوفاً، تتعاطى معه وسائل الإعلام بشكل طبيعي، وكما يقول محرر صفحة (الملحدون العراقيون) على الفيسبوك التي تضم نحو11 ألف عضو، فإن مصطلح الإلحاد كان غريباً في العراق قبل أعوام، وكان يبعث على الخوف بين الناس، لكنه أصبح اليوم عاديّاً، وهناك من يجاهر بهذا الموقف الديني، مما يمثل اعترافاً صريحاً بأن هذه الظاهرة تجد أنصارا في البلاد.

والأخطر في انتشار الظاهرة أنها أصبحت حاضرة بقوة في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تم استحداث مواقع افتراضية متخصصة في الإلحاد للتبشير والنقاشات، وتبرير اختيار هذا الطريق السالك، والولاء للمعتقد الجديد، وهو ما يؤشر إلى محاولة قتل الوسطية الدينية التي كانت عميقة في جذور الشخصية العراقية، وولادة التطرف الديني الذي خرب البلاد والعباد.

لم يكن هذا الإلحادُ الجديدُ قد هبط علينا بالمظلَّة من كوكبٍ آخر، بل تسرَّبَ جزءٌ مهمٌّ منه مِنْ ثُـقُوب في بعض مفاهيمنا وطرق تعاملنا مع النصوص الدينية، كذلك التفاعل العكسي السلبي مع جزء من الخطاب الديني التقليدي، في شقه المتشدد على الخصوص. وهناك أيضاً البيئة الملوثة بأفعال فسقة الدين الكاذب لمن يحكم العراق بالعمامة، بل كانت منهجا مخططا لإنهاء الوسطية، وتثوير الصراعات الطائفية والدينية، مما خلق نفوراً شعبياً بين الشباب بشكل خاص، والشعب بشكل عام من استخدام الدين في السياسة، وهذا ما تجسد في تظاهرات الشباب، وفي شعارهم العميق: (باسم الدين باكونا الحرامية)، وكذلك بفعل السياسات الفاشلة التي كرستها أحزاب الإسلام السياسي بعد عام 2003، وتدمير البلد، وتحويله إلى مصرف للسرقة ونهب مال الفقراء، وتفاقم المشكلات الخدمية، وفقدان الأمن، وتحويل الوطن إلى خريطة كبيرة للفقر والحرمان والقتل، إضافة إلى غياب مؤسسات الدولة واستغلال السلطة ورجال الدين ومغالاتهم في تطرفهم الطائفي، بل تكاثروا بشكل غريب، كأن الوطن أصبح علامة فارقة بالعمامة السوداء والخضراء والبيضاء، ولتختفي صورة المدنية الجديدة، ونغم المقامات وسيمفونية الحياة!

ويعزو مهتمون بنشوء هذه الظاهرة، مسبباتها إلى عوامل أخرى، بينها الانفتاح الكبير الذي شهده العراق بعد عام 2003، بالترافق مع الطفرة الكبيرة في مجال التكنولوجيا، حيث أمكن للشبان الاطلاع على تجارب كونية لا حصر لها، مما يفسر انتشار ظاهرة الإلحاد بين صفوف الشبان المتعلمين، أو الذين يواكبون التطورات التكنولوجية، إذ تعد وسائل التواصل الاجتماعي المنبر الأبرز للتعبير عن هذا الموقف الديني.

آخر الكلام، الألحاد ظاهرة موجودة ومستمرة تنمو في خلايا العقل الباطن، وتستيقظ بقوة عندما تستوطن الخرافة في العمامة، وتنحر الرؤوس باسم الدين كذبا، ويكون الفقر كفراً، والدين مظهراً ونفاقاً، والفساد حكمة مطلقة، والاستبداد قانوناً، والمستقبل مظلماً، والاغتراب حياة أبديه، والمعلومات ودمقرطة المعرفة سجناً للعقول، وحرية للمظلومين!

المواجهة تبدو مبرّرة ومنطقية، مثلَ ثُقُوبٍ في مركبٍ في عرض البحر، وتأجيل المواجهة لها والتأخُّر في إصلاحها يعني الغرق للجميع!
ابحثوا بمنطق العقلانية عن (الصندوق الأسود)، لأنه الوحيد الذي سيكشف أسرار تناسل الإلحاد، وسر ما تفعله العمامة المزيفة في الأوطان؟!


*أكاديمي وكاتب صحافي عراقي، رأس تحرير أكثر من مجلة وصحيفة عراقية، يحمل لقب الأستاذية منذ عام 1994، وله 26 كتابا في الإعلام والاجتماع ترأس عدد من عمادات كليات الإعلام، عضو استشاري لعدد من المجلات العلمية المحكمة في الوطن العربي والعالم، كاتب أسبوعي لعدد من الصحف العراقية والعربية، عضو نقابة الصحفيين العراقيين والعرب والاتحاد الدولي للصحفيين.