تولي كل من مصر ومنطقتي شمال أفريقيا والشرق الأوسط اهتماماً بالغاً في مراسلات الخارجية الأميركية في عهد هيلاري كلينتون (2009-2013)، يكاد أن يفوق الاهتمام الذي توليه الصحف الأميركية نفسها للقضية.
لم تكن إتاحة الاطلاع على هذه المراسلات (في مكتبتها الفعلية والفضائفتراضية) تآمراً لإحراج الديموقراطيين، وخصوصاً أن الوثائق تعود إلى فترة ماضية وصارت بحكم بند حرية المعلومات متاحة لمن يرغب بالاطلاع عليها. ولعل جوقات الإدانة المصرية والعربية لم تنتبه إلى أن المراسلات خرجت إلى العلن بحكم هذا البند في الدستور الأميركي.

ويعود عدم اهتمام الصحافة الأميركية بموضوع المراسلات إلى أن المؤسسة الليبرالية التي توجه الرأي العام تبذل أقصى الجهود لعرقلة إعادة انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب لفترة رئاسية ثانية. فالمؤسسات الصحفية وشبكات التلفزيون الأميركية رفضت قبول اختيار الناخب الأميركي في 2016، ولاتزال معركتها مستمرة مع الرئيس ترمب. يوم الخميس مثلا، أساءت كل من فيسبوك وتويتر احتكارهما لأكبر منصتي تواصل اجتماعي بفرض رقابة على "نيويورك بوست" وحجب المنشورات التي بثتها الصحيفة عن فضيحة صفقات ابن المرشح الديموقراطي جو بايدن التجارية في الصين ومشاركته أرباحها مع والده.

ولو كان الحذاء في القدم الأخرى، حسب المثل الإنكليزي، وتعلقت الفضيحة بأي شخصية مقربة من ترمب، لتحولت القصة إلى عنوان مانشيت في "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، ولكانت احتلت الخبر الأول في نشرات "سي إن إن".

ومن المستغرب غضب المصريين والعرب على منابر التواصل الاجتماعي، وغالبيتهم لا صوت له في الانتخابات الأميركية ولا جمل. المفاجاة هي "مفاجأة" الغاضبين من خطط إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما (2009-2017) التي قدرت حساباتها أن في مصلحتها الاستراتيجية تمكين الإخوان من الحكم في انتفاضات (2010-2013)، وإسقاط نظام الكولونيل معمر القذافي (1942-2011). أي إنهاء حقبة الدولة القومية المستقلة التي واكبت مشروع الحداثة قبل قرنين، فيما تتكتل الدول المتبقية تحت راية التيار الإسلامي الذي قدم نفسه كإسلام سياسي معتدل قادر على ترويض التيار الجهادي المتشدد.

وبالرغم مما يتسم به يومنا هذا من سهولة الوصول الى المعلومات أونلاين، والبحث في الوثائق وتحميل الكتب والدراسات التي كانت تحجبها الأنظمة الشمولية عن الناس، يتغافل كثيرون في منطقتي شمال أفريقيا والشرق الأوسط "شاشا" عن بديهية أنه "لا توجد صداقة دائمة أو خصومة دائمة، وإنما مصالح دائمة" في العلاقات الدولية.

أما الطبقات المتعلمة التي أدانت بأعلى الصوت تحرك دول الخليج، فلم يسبق لها أن دخلت في حرب مع إسرائيل. فالملفت أن أشد الإدانات أتت من بلدان لها معاهدات سلام وتمثيل دبلوماسي مع إسرائيل منذ عقود)؛ مصرين على أن الخصومة والعداء مع بلد مجاور هو الوضع الطبيعي الدائم إلى الأبد.

وشكل المزاج الذهني المستمر منذ 1948 والمنعكس في الاحتجاج على علاقات بلدان الخليج بإسرائيل، عنصراً أساسياً في حسابات الأميركيين الذين تقضي مصلحتهم العامة بسيطرة كيان واحد (إسلام سياسي معتدل - أي يتعاون معهم والأوروبيين) على نسق يشمل كل بلدان "شاشا". وتيار التفكير الاستراتيجي لا يتواجد فقط في الإدارة الأميركية، بل في وزارات الخارجية الأوروبية وفي مقدمتها البريطانية. الولايات المتحدة، بعد حماقة بريطانيا وفرنسا في حرب السويس 1956، أصبحت القوى الكبرى الأولى كوريث القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر: بريطانيا، وفرنسا، والامبراطورية الهنغارية-النمساوية.

قوى كانت تتنافس بين بعضها البعض، وفي معظم الأحوال تتحد ضد روسيا وضد الامبراطورية العثمانية. ولأن القوى الكبرى تتبع العقل والمصالح الاستراتيجية لا أيدولوجية العواطف، فان الاستراتيجية السياسة نفسها لم تتغير منذ القرن التاسع عشر.

سياسيا، فضلت التعامل مع كيان واحد مترهل (الامبراطورية العثمانية) وضعيف مركزيا (خلافة الباب العالي في اسطنبول) بدلا من حسابات مصالح متعددة لولايات عثمانية تحولت كيانات قوية (بمفهوم الدولة القومية الحديثة على النمط الأوروبي) بهوية مستقلة.

تاريخ القرن التاسع عشر في حوض المتوسط شهد جهود القوى الأوروبية لمنع مؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا (1769-1849) وأولاده من بناء مصر كدولة قوية حديثة بهوية مستقلة عن الخلافة الاسلامية العثمانية. بوسائل عسكرية (تضافر أساطيل روسيا وفرنسا وبريطانيا لتدمير الأسطول المصري في نفارين في 1827) أو بوضع عراقيل مالية لتسوية ديون مصر - رغم أن قروض الخديوي اسماعيل (1830-1895) مولت تأسيس البنية التحتية من مئات الكباري وقنوات الري والسكة الحديد والموانئ التي بدونها ما كان لمصر الحديثة نهوضا.

ولولا أن مصالح بريطانيا كانت في احتلال قناة السويس - وكان لرئيس الوزراء وليام غلادستون 1809-1898) وقتها ما قيمته اليوم 90 مليون دولار من أسهمها - لكانت تركت الحركة العسكرية بقيادة أحمد عرابي باشا (1841-1911) تسقط الخديوي توفيق باشا (1852-1892). فالحركة العرابية (بدعم الباب العالي) لم تسع لهوية دولة مستقلة كما أراد توفيق (بدستورين متتالين) بل تستمر تابعة للخلافة العثمانية في اسطنبول. وبعكس نفارين، انسحب الاسطول الفرنسي (برعاياه) من مياه الاسكندرية في 10 يوليو 1882، ولم يشارك الانكليز قصف المدينة في اليوم التالي أو احتلالها بداية من يوم 14 يوليو.

تأسيس حركة الإخوان المسلمين أعقب إنهاء مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938) للخلافة العثمانية. وتقويض الدولة القومية وتأسيس خلافة إسلامية هدفا معلنا للاخوان، ودعمهم (منذ تأسيسها) لايزال ورقة في درج مكتب الديبلوماسية البريطانية تظهر عند اللزوم. ورغم أن اميركا ورثت مشاريع القرن التاسع عشر الاوروبية، ورأت في الإخوان بديلا حديثا للامبراطورية العثمانية، الا ان إشارات حرارة قبول المشروع والترحيب به صدرت (ومستمرة) من منطقة "شاشا" نفسها، وبالتحديد من بلدان أكثر الأصوات إدانة لمراسلات هيلاري.

أليست بلدان منطقة "شاشا" هي الولايات العثمانية السابقة؟
أليس الاحتجاج على علاقات بلدان خليجية بإسرائيل سببه بقاء الأذهان أسيرة أيدولوجية القومية العربية الموحدة التي أذابت هوية الدولة القومية (وأحيانا ألغت أسماء الدول)؟
ألم تتمحور وحدة هذه "القومية العربية" حول معاداة إسرائيل و"تحرير فلسطين"، الشعار الذي استبدل (1980-2001) بشعار ملامحه سياسية إسلامية "تحرير أفغانستان"؟.

الوسائل البصرية كالتلفزيون والسينما توظف رموز للبلدان: تمثال الحرية لأميركا، برج إيفل لفرنسا، وبيغ بن رمز بريطانيا. "بي بي سي" في برامجها العربية والفارسية الموجهة (وتاريخيا كانت واجهة الخارجية البريطانية التي كانت تمولها حتى الامس القريب) لا تضع الأهرامات كرمز واضح لمصر، بل صورة لا تفرق كثيرا عن اسطنبول، كالحال مع بلدان المنطقة لإعطاء انطباع ضمني أن كله عند بلدان "شاشا" صابون الخلافة العثمانية. فلماذا تحتجون على سياسة إدارة أميركية أجرت حساباتها وفق معطيات صادرة عنكم؟