أثناء مطالعتي المعتادة للتقارير الأخبارية والأحداث حول العالم، لم أجد خلال الأيام الأخيرة أي صوت يعلو فوق صوت وأخبار انتخابات الرئاسة الأمريكية التي تسببت في تجميد المشهد السياسي بل والعسكري في العالم اجمع طيلة أيام خمس، وهكذا تثبت هذه الانتخابات أن زمام قيادة النظام العالمي لا يزال في واشنطن حتى إشعار آخر. وفي ظل هذا الاهتمام الشديد بالحدث انقسم العالم وليست أمريكا فقط إلى متفائلين بانتخاب جو بايدن ومتشائمين من إعادة انتخاب دونالد ترامب، والعكس أيضاً صحيح، فلكل مرشح نصيب من التفاؤل والتشاؤم في حالة الانقسام العالمي والأمريكي!!

تبارى كل فريق من المراقبين والمحللين في طرح دواعي تفاؤله أو تشاؤمه من هذا المرشح أو ذاك، وانتصر كل لوجهة نظره ورؤيته، حتى أن البعض توقع ردة كاملة عن سياسات الرئيس ترامب، بل وحلمت قوى التطرف والارهاب في منطقتنا بأنها ستحظى بعناية واهتمام الرئيس المنتخب جو بايدن، وكأن بايدن وغيره من النخبة الأمريكية لم يتابع حجم الرفض الشعبي العربي لهذا التيار، وذهب فريق من الأشقاء الفلسطينيين للقول بأن المرشح الديمقراطي سيكون أفضل لقضيتهم من ترامب، وكأن هذه الانتخابات تجري في فضاء خال من ضغوط اللوبي اليهودي الذي يلعب دوراً كبيراً توجيه دفة التصويت لهذا المرشح أو ذاك من خلال وسائل الاعلام وأدوات عديدة يمتلكها ولها تأثير هائل على الانتخابات.

الحقيقة أن المسألة لا علاقة لها بالتفاؤل والتشاؤم مطلقاً، ولكن لكل رئيس أمريكي أجندة خاصة يسعى إلى تحقيق أهدافها، وهذه الأجندة تعلي المصالح الاستراتيجية الأمريكية ولا تصب في اتجاه طرف معين ما لم يكن هناك تلاق في المصالح وأرضية مشتركة يقف عليها الطرفين كما هو الحال في زواج أو تحالف المصالح القائم بين الولايات المتحدة واسرائيل، وبخلاف ذلك تبقى الأمور قابلة للتعديل والتغيير وفقاً لرؤية كل رئيس، فالرئيس أوباما أدار ظهره في سنوات رئاسته الثانية للشرق الأوسط بكل أهميته للمصالح الأمريكية، وكذلك فعل الرئيس ترامب باعتقادي وهكذا سيفعل بايدن، وهنا يجب الاشارة إلى أن المسألة لا تتعلق بأهمية هذه المنطقة من منظور المصالح الاستراتيجية الأمريكية ولكنها تتعلق بكيفية تحقيق كل رئيس لهذه المصالح وفق رؤيته الخاصة، وهنا تجب الاشارة إلى أن نجاحات الرئيس ترامب في وضع الشرق الأوسط على عتبات تاريخ جديد من خلال تطبيع العلاقات بين دول عربية عدة وإسرائيل، لا يعكس اهتماماً بالمنطقة بقدر ما يصب في مصلحة تعزيز أمن اسرائيل من خلال ترسيخ أجواء السلام مع جيرانها العرب، وهذا الأمر يصب في مصلحة الأولوية الأمريكية الخاصة بالتفرغ للتصدي للتحدي الصيني المتصاعد على قيادة النظام العالمي القائم.

الأرجح بطبيعة الحال أن الرئيس المنتخب بايدن لن يغير شيئاً في واقع المكاسب الاستراتيجية التي حصلت عليها اسرائيل خلال العام الأخير من ولاية الرئيس ترامب، بل سيعمل على مضاعفة هذه المكاسب وترسيخها، ومن يتوقع غير ذلك فهو يخادع نفسه والآخرين، وهكذا نحن العرب في كل انتخابات أمريكي نفرح بمغادرة هذا أو بقدوم ذاك، ثم لا نلبث أن نكتشف أننا أمام واقع اصعب فنضطر لانتظار تغيير قادم في البيت الأبيض وهكذا تمر السنوات والعقود واحدة تلو الأخرى من دون أن نفكر في الامساك بزمام الأمور ونبحث عن حلول وبدائل لأزماتنا بأنفسنا، من خلال مقاربات ورؤى جديدة بعيدة عن الطروحات التي ثبت فشلها أو عدم نجاعتها في حلحلة الأزمات والقضايا الخاصة بمنطقتنا وفي مقدمتها القضية الفلسطينية بطبيعة الحال.

بايدن لا يؤمن كثيراً بانعزالية ترامب ويريد استعادة القيادة الأمريكية للعالم كما قال منذ أشهر، ولكن هذا الأمر يتعلق بالأساس بعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأطلسيين وعضويتها في الاتفاقات والمعاهدات الدولية، وفي مقدمتها اتفاق باريس للمناخ الذي انسحب منه الرئيس ترامب، ويُتوقع أن تكون العودة إليه من أول قرارات الرئيس المنتخب.

لن يواجه الرئيس المنتخب بايدن إيران أو غيرها عسكرياً في استمرار لنهج ترامب، فالساسة الأمريكيين باتوا يدركون حجم الرفض الشعبي للتدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج، وكذلك ظروف الاقتصاد الأمريكي لا تسمح مطلقاً بقرارات من هذا النوع، كما أنه لن يعود بين عشية وضحاها للاتفاق النووي كما يتوقع ملالي إيران وعلينا أن نتذكر أن ترامب احتاج إلى نحو عامين كي ينفذ وعده الانتخابي بالانسحاب من هذا الاتفاق رغم أن وعد بانسحاب سريع، وهذا مفهوم لأن الحسابات تتغير عقب دخول البيت الأبيض والجلوس على مقعد قيادة القوة العظمي الوحيدة في العالم، وبالتالي ليس لنا أن نتوقع عودة أمريكية سريعة للاتفاق النووي، وربما يكون بايدن أشد خصومة للملالي من ترامب لأنه لن يكون أبداً مهادناً لها كي لا يتهم بالتراخي والتراجع، ولكنه سيبحث بالتأكيد عن طريق أكثر فاعلية لتحقيق هدف الحد من الخطر والتهديد الايراني على أمن إسرائيل.

ملالي إيران يقولون أن عودة بايدن للاتفاق النووي لن تكون من خلال إعادة التفاوضي على الاتفاق، حيث قال وزير الخارجية محمد جواد ظريف إنه يريد عودة الولايات المتحدة للاتفاق مرة أخرى ، لكنه قال إن "العودة للاتفاق لا تعني إعادة التفاوض لأنه إذا أردنا القيام بذلك (إعادة التفاوض)، لكنا فعلنا ذلك مع الرئيس ترامب قبل أربع سنوات"، وهذا كلام غير دقيق لأن ظريف والملالي جميعهم يدركون أنه لا عودة أمريكية للاتفاق من دون الاتفاق على مفاوضات وشروط جديدة، لأن ثغرات الاتفاق لم تعد تخفى على أحد وبايدن هنا يبدو أقرب للموقف الأوروبي القائل بالابقاء على الاتفاق مع الجلوس مجدداً لتوسيع إطاره، والملالي يعرفون ذلك جيداً ولكنها مساومات يعرفها جيداً من يتابع السياسة الخارجية الايرانية.

لا تفاؤل ولا تشاؤم بالقادم الجديد للبيت الأبيض، فالسياسة لا تعرف المشاعر، وطريقها مفروش بالمصالح وأوراق الضغط التي يجب أن يجيد كل من يمتلكها استخدامها وتوظيفها لمصلحته في التوقيت والظروف المناسبة.