بأداء الرئيس الأميركي جوزيف بايدن اليمين الدستورية، تكون الولايات المتحدة قد طوت صفحة لمرحلة كانت من أكثر المراحل إثارة للجدل في الداخل الأمريكي، فمنذ الثالث من نوفمبر الماضي، والشعب يحبس أنفاسه بانتظار ما ستؤول إليه الأمور في مسرحية طالت فصولها وشابتها الكثير من التعقيدات، لتبلغ الأزمة مداها مع اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير، الأمر الذي أرعب الأميركيين وشكّل صدمة حقيقية ، وكانت لحظة وَعي فارقة لدى معظم النخب الفكرية والسياسية بما فيهم الجمهوريين و كثيرين ممن كانوا قد أيدوا الرئيس السابق دونالد ترامب في حملته الانتخابية .

وفي وقت شهدت العاصمة الأميركية استنفارًا أمنيًّا استثنائيًا غير مسبوق، وعبرمراسم تنصيبٍ لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل، حاول بايدن أن يركّز في كلمته على ضرورة وحدة الأميركيين وتقوية الداخل عبر التعاون والمشاركة وتفهّم الآخر، للنهوض بالتحديات التي تواجه المواطن في حياته اليومية في ظل انتشار الوباء، كما أكدّ على أهميّة أن تستعيد أميركا دورها الريادي "الخيري والانساني" في العالم .

على أية حال هذا المقال ليس لتحليل خطاب الرئيس الأميركي خلال حفل التنصيب، ولكنه محاولة لفهم مواقف المحافظين و تباين آرائهم خلال الأسبوعين الأخيرين الذين سبقا حفل التنصيب اثر اقتحام مبنى الكابيتول، حيث وجد كبار الجمهوريين أنفسهم أمام مفصلٍ تاريخيٍّ، عليهم أن يتخذوا من خلاله موقفًا واضحًا وحاسمًا ونهائيًّا، للحفاظ على بلادهم وأمنهم وديموقراطيتهم. ولعل آخر تلك المواقف، الرسالة المشتركة التي بعث بها سبعة عشر نائبًا جمهوريًّا للرئيس بايدن و قدمها بيث فان دوين النائب الجمهوري عن ولاية تكساس، حيث

عبروا له من خلالها على تطلعهم للعمل معه حفاظا على وحدة أميركا، مؤكدين إن "ما يجمع الأميركيين أكثر مما يفرقهم" وانهم يأملون في " الترفع عن الصراع الحزبي للحفاظ على مكانة أميركا كأفضل بلد في العالم" .

وحول مواقف الجمهوريين بأطيافهم لا بد من تسجيل نقاط محورية مع أهمية تسلسلها الزمني. فالحزب الجمهوري حزبٍ أميركي عريق يستند إلى مرتكزات فكرية حقيقية واضحة ، ولا يقوم على عقيدة "اقصائية"، لذلك فإن كثيرين ممن صوتوا لترامب في الانتخابات الأخيرة والذين تجاوز عددهم 74 مليون ناخب، هم صوتوا له بوصفه ممثلا لقيم الحزب.

وقد خرجت مواقف كثيرة وعديدة عن جمهوريين بارزين أكدوا فيها أن القانون والدستور الأميركي هو الفيصل الذي يجب أن ينضوي تحته الجميع ، وقد برزت أصوات من داخل أروقة الحزب المحافظ تدعو للعمل على لملمة الصف وتوحيد الجهود لعدم حصول أي انقسامٍ داخل الحزب الواحد يؤدي إلى شرخ في القواعد الانتخابية المحافظة من جهة وإلى ظهور مجموعات متطرفة من جهة أخرى، وكان هناك شبه اجماعٍ على إدانة كل أعمال العنف والتخريب التي حصلت يوم السادس من يناير .

فقد بدا موقف زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ ميتش ماكونيل عقب أحداث الكابيتول مباشرة واضحا جدا لجهة التأكيد على ضرورة الالتزام بالقانون والدستور قبل كلّ شيء ، حين أشار الى أن الكونغرس "سيواصل عمله بطريقة قانونية ودستورية، وسيصدق على الفائز في انتخابات الرئاسة" ورافضًا في الوقت عينه عدم الخضوع لأي ضغوطات محتملة ، مضيفًا :"لن يتم ترهيب مجلس الشيوخ الأميركي وإبعادنا عنه بسبب البلطجية أو العصابات أو التهديدات. لن ننحني أمام الفوضى والترهيب، لقد عدنا إلى مواقعنا".

ولعل من أبرز المواقف تلك ،تراجع السيناتور كلي لين لوفلر، عن الاعتراض على نتائج الانتخابات بعد تعرضها لخسارة مقعدها في جورجيا أمام المرشح الديموقراطي قائلة : "أجبرتني الأحداث على إعادة النظر في قراري، ولا يمكنني الآن بضمير حي أن أعترض على تصديق نتائج الانتخابات. إن العنف وانعدام القانون وحصار قاعات الكونغرس أمر مقيت، وهو بمثابة هجوم مباشر على ما كنت أنوي حمايته".

أيضًا فقد أكدّ السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام على الالتزام بحكم العدالة مؤكدًّا أنه "يقبل أحكام القضاة الاتحاديين في دعاوى فريق ترامب القضائية رغم أن تلك الأحكام لم تعجبه".

طبعًا هذه المواقف خرجت من قبل صقور المحافظين الذين حاولوا حتى اللحظة الاخيرة التماسك و تجنب المزيد من الجدل. فيما يرى محللون من الجمهوريين أن مايك بنس نائب الرئيس حاول ان يبذل ما في وسعه لمنع ترامب في ايامه الأخيرة من الانخراط في أي تصريح او سلوك يمكن ان يُفَسَّر على أنه تحريضًا، معتبرين أن كبار القادة في الإدارة لديهم التزام اخلاقي بأن يفعلوا ما في وسعهم لتقديم المشورة والحد من أي تصرف قد لا يتسق مع قسمه الرئاسي.

كما خرجت العديد من مواقف من تخلّوا عن ترامب و مزاعمه وعلى رأسهم كريستوفر ميلتز، مطالبا الحزب الجمهوري بأن عليه ان يكون واضحا و"أن يقرر إن كان حزبا يقوم على عقيدة ترامب، أم أنه يستند إلى أيديولوجيا محافظة حقيقية، لأن الفارق شاسع جدا بين النهجين".

نعم لقد أثبتت الولايات المتحدة أنها دولة مؤسسات لا أشخاص ، ففي وقت سارع بعض "المحللين" لا سيما في الشرق الأوسط إلى اعتبار أن الديموقراطية الأميركية دخلت في مرحلة حرجة وانها توشك على الانهيار، فإن الأيام اثبتت خلاف ذلك فالتحليل الهادف والقراءة المتأنية للتاريخ الأميركي المعاصر تظهر أن الولايات المتحدة واجهت تحديات مشابهة خلال القرن المنصرم، وكانت الشفافية في معالجة تلك النكسات سبيلاً لترسيخ العمل الديموقراطي والمؤسسي مما أدّى الى اجتياز التحديات بخطى ثابتة وثقة أكبر، وأدى إلى اكتساب مناعة أقوى لدى المجتمع الاميركي عقب كل أزمة واجهته .

ولعلّ اصرار اعضاء الكونغرس بأغلبيتهم من ديموقراطيين وجمهوريين على استكمال جلسة التصديق على انتخاب الرئيس جوزف بايدن برغم اجتياح المجموعات الغاضبة لمبنى الكابتول خير دليل على حرص جميع ممثلي الشعب الأميركي على القيام بواجباتهم التشريعية وعدم التأجيل أو الرضوخ لأي تهديدات .

أخيرا، جاء حفل التنصيب ليقلب صفحة جديدة من تاريخ البلاد ويتزامن مع الذكرى السنوية للزعيم والناشط السياسي مارتن لوثر كينغ، والذي يصادف يوم الإثنين الثالث من شهر يناير من كل عام. وكما تجاوزت الولايات المتحدة في ستينيات القرن الماضي الشرخ الكبير وأعمال العنف التي مارسها العنصريون حينها تجاه حركة الحقوق المدنية السلمية ، فإنها قادرة اليوم بحزبيها الجمهوري والديموقراطي وأكثر من أي يوم مضى على تحقيق رؤيا كينغ القائمة على الديموقراطية و تجسيد العدالة الاجتماعية لقيام "مجتمع المحبين" .