لاحظت مراراً أنه كلما اشتد خلاف بيني وبين بعض زملاء العمل، خاصة إذا تعارضت آراؤنا وأفكارنا وقراراتنا في أي شأن من الشؤون المهنية، فإن زملائي عادة ما يلمحون خفية، وأحيانا يصرح بعضهم، بأني مثقف متعدٍ على عالم المال والأعمال والاقتصاد، ويعتبرون اهتماماتي الفكرية دليلاً صريحاً على ذلك. بينما يرى الأصدقاء من المثقفين، ومثلهم الفريق الذي يعمل معي في المؤسسات البحثية والفكرية التي أرأسها، أنني اقتصادي متعد على عالم الثقافة. وفي الحقيقة يمكنني الإعلان وعن طيب خاطر أنني أقبل الموقفين، إيماناً مني بأن هوية الفرد الشخصية لا يمكن حصرها بحدود المهنة والعمل، فالإنسان كائن متعدد الأوجه، بتعدد تفاعلاته مع ما حوله، سواء في عالم العمل أو الفكر أو الرياضة.. وحتى الفن أحياناً.

ويحضرني كلما سُئلت عن معنى الثقافة أو عمل المثقف، قول عنترة العبسي (جَادَتْ لَهُ كَفِّي بِعَاجِلِ طَعنَةٍ ... بِمُثَقَّفٍ صَدْقِ الكُعوبِ مُقَوَّمِ) يصف رمحه المقوم والمصنوع على أفضل شكل ممكن، والذي يصيب الهدف مباشرة وبكل دقة وقوة. ولذلك لا عجب أن بني ثقيف، وهي قبيلة عربية قديمة سكنت الطائف وكانت توازي قريشاً في القوة والحضارة، قد سُموا بهذا الاسم بسبب براعتهم وجدّهم وصفاتهم النبيلة واستماتتهم في الدفاع عن أنفسهم، وحتى في حربهم مع المسلمين سأل بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوا على ثقيف بعدما كثرت نبالهم على جيش المسلمين فقال عليه الصلاة والسلام "اللهم اهد ثقيفاً".

وإذا كان الاشتقاق العربي لهذه المفردة غريب ونادر، فإن الاشتقاق الغربي لها لا يقل غرابة، حيث أن كلمة (culture) مشتقة من اللاتينية (coler) والتي تعني الاهتمام بالأرض والنمو، أو الزراعة والرعاية، وهذا ما يربط بوضوح بين (culture) ثقافة، و(agriculture) زراعة، ولا شك أن المعنى يصبح أكثر بهاء عند مزج اشتقاقه العربي بالاشتقاق اللاتيني، ليصيب القوة وإصابة الهدف مع الرعاية والنمو والزيادة.

وعموماً فقد شهد مصطلح المثقف تنوعاً إشكالياً في تحديد مفهومه، فتناولته العديد من الدراسات، وقام بتعريفه الكثير من المفكّرين والكتّاب والفلاسفة، دون الوصول إلى تعريف شامل ونهائي، وربما يعد تعريف أنطونيو غرامشي من أهم التعريفات لهذا المصطلح العويص، حيث يرى ان المثقف هو : "كل إنسان يمتلك رؤية معينة تجاه المحيط الذي يعيش أو ينشط فيه"، وهذا ما دفعه إلى التمييز بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي، حيث ذكر أن المثقف التقليدي هو الذي يعيش في برجه العاجي ظاناً أنه أعلى من كل الناس، أمّا المثقف العضوي فهو الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته وهو المثقف الحقيقي بنظره، أما زكي نجيب محمود فيعني بالمثقف أنه: “الشخص الذي يحمل في ذهنه أفكارًا من إبداعه أو من إبداع سواه، ويعتقد أن تلك الأفكار جديرة بأن تجد طريقها إلى التطبيق في حياة الناس فيكرّس جهده لتحقيق هذا الأمل”، فيما يعدّه حيدر إبراهيم: “ذلك الشخص الذي يتحلى بالمعرفة مضافًا إليها العمل والممارسة، ووفقًا للثقافة المكتسبة فالمثقف هو متعلم أو متخصص، وُيعد صاحب قضية اجتماعية أو سياسية يعمل من أجلها وفق رؤيته للعالم".

وإذا ما قاطعنا بين هذه التعريفات، سنجد أن جميعها تصب في ذات المحيط، وأن مصطلح المثقف لا يقتصر على الشخص ذو المعرفة والمهارة والإبداع، بل يجب أن يكون له دوره الفعال فكرياً وعملياً في مجتمعه، ليساهم في بناء الحضارة الإنسانية، وهذا ما بينه سارتر، فالمثقف ليس مسؤولاً عن نفسه فقط، بل وعن كل الناس أيضاً، ويرتكز دوره في النضال الواعي ضد كل ما يضر بالإنسان من خلال رؤيته ونقده وجرأته في نقل الحقيقة، هذه الجرأة التي تكلفه أحياناً تحمل ما لا يطيقه الآخرون، خاصة في المجتمعات التي تكون حاجتها للمثقفين أكبر، حيث ينبغي عليهم مخالفة الرأي العام، والتصدي أحيانا للسلطة السائدة بشتى أنواعها، كي يستطيعوا إحداث التغييرات التي يتطلعون إليها، أو أحياناً مواجهة التغيرات التي تهدد ثقافة مجتمع ما ووعيه.

وتصب فكرة المواجهة هذه في التصدي لما بات يُعرف بمفهوم الهيمنة الثقافية (الظاهرة التي ترمي إلى نشر ثقافة الطرف المهيمن وضرب الثقافات المحلية أو القومية من أجل سيادة نموذج واحد للتفكير ونشر قيم إنسانية معينة دون غيرها) وما قد يصحب ذلك من تعطيل للإبداع وتسطيح للوعي خدمة لغايات معينة، قد وجد هذا المصطلح طريقه للسياسة بعد الحرب العالمية الثانية، متأثراً بأطروحات غرامشي الذي كان معارضاً للفاشية وشخّص قدرتها على الهيمنة على المجتمع الإيطالي مقابل فشل الثوار الماركسيين (الذين نادوا بمبادئ العدالة الاجتماعية) في حمل ضحايا الفاشية على الثورة ضدها.

ومن جهة محلية.. لا يمكننا إنكار أن الثقافة العربية تعيش اليوم مرحلة انتقالية غير صحية وغير منتجة في غالب مستوياتها، وذلك في ظل غياب دور المثقف في المجتمع ودور وزارات الثقافة العربية، التي تفتقد لسياسات التنمية الثقافية، الأمر الذي لا يحمّل الوزارات وحدها المسؤولية، فالمسؤولية الأولى والأخيرة تعود إلى غياب التخطيط الحكومي الذي لا يضع الثقافة ضمن أولوياتها وفي صلب موضوعاتها، ودليل ذلك أنه لا يخصص لوزارات الثقافة العربية إلّا القليل من الميزانيات مقارنة بميزانيات الوزارات الأخرى، كما بات من الضروري استبدال هيكليات المؤسسات الثقافية الحكومية الهشة بأخرى قوية ومتينة، تصب مباشرة في رعاية الجمعيات والفعاليات الثقافية، وتمويل المشاريع الثقافية الفردية أو الجماعية، والمساهمة في الإنتاج المسرحي والسينمائي وتفعيل دور العرض، ودعم الفنون التشكيلية والموسيقى والرياضة والرقص ودور نشر الكتب، وكل ما يندرج داخل إطار الثقافة وصولاً لوسائل الإعلام والإنترنت التي باتت تعد مصدراً ثقافياً فائق الأهمية، خاصة بعدما لعبت دوراً فعالاً في نشر الأعراف والعادات والثقافات المجتمعية والأخبار بكافة المجالات، فتجاوزت بذلك دور الأدوات التقليدية التي كانت سائدة في السابق.

وسواء كنت اقتصادياً يهتم بالثقافة، أو مثقفاً يعمل في الاقتصاد، والأمر عندي سيان، فقد تنبهت من اطلاعي على المجالين أن ضرورة الثقافة توازي ضرورة الاقتصاد في أي دولة، بل أكثر منه أحياناً، وسأدلل على ذلك بالمرحلة الانتقالية للمجتمعات الأوروبية في حوالي منتصف القرن الخامس عشر، حيث نجحت أوروبا بالنهوض من عصر الزراعة إلى الصناعة خلال ثلاثمئة سنة تقريباً، بينما فشلت الصين، والسبب أن شيوع الحرية الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا ساهم فعلياً بفتح المجال لقيام الأنشطة الفكرية والحراك الاجتماعي وحركة الإصلاح الديني، والتي جميعها مهدت الطريق لقيام الثورة الصناعية، وبالتالي فقد ساهمت التنمية الثقافية مساهمة قوية ومباشرة في النمو الاقتصادي الأوروبي، بينما لم يتوفر أي من هذه الشروط في الصين، فشهد اقتصادها آنذاك ركوداً وضعفاً، كما هو حال معظم بلادنا العربية اليوم، التي تشهد بالإضافة إلى غياب التنمية الثقافية، اندلاع الحروب في أكثر من مكان، وسقوط بعض الأنظمة، وانتشار الجرائم والإرهاب، مما أدى إلى الفوضى والانهيار الاقتصادي، الذي بدوره أثر بشكل سلبي على شكل الحضارة والثقافة في المنطقة.

إذن لا مهرب من هذا التأثر المتبادل بين الثقافة وما عداها من شؤون المجتمع والناس، وهذا ما بينه المفكر الأمريكي ألفين توفلر بقوله: "إن الدول التي لها ثقافة ستزدهر اقتصادياً عاجلاً أم آجلاً، في حين أن الدولة المزدهرة اقتصادياً تشهد تطويراً سريعاً في الثقافة"، أي أن الدول التي تتمتع باقتصاد جيد ومستقر تكوّن الأساس لبناء قاعدة ثقافية مؤثرة بشكل إيجابي، وتقلل من الظواهر الاجتماعية السلبية كالفقر والفساد المالي والفساد الإداري. وشواهد التاريخ كثيرة على أنه لم تنهض أمة، ولم يرتق شعب، إلا من خلال الطليعة المثقفة فيه، وذلك عندما تتصدى لكل آفات المجتمع، وتتكفل بمهمة البحث عن كل ما هو جديد من أفكار وحلول، وتشارك في وضع الخطط المستقبلية للبلاد.

أخيرا.. إلى أي مدى أستطاع إدوارد سعيد تشخيص حالة العرب بقوله إن: " مشكلة العرب أنهم لا يشاركون في صنع الحضارة، وإنما يتفرجون عليها فقط"، لكن ألم يحن الوقت كي يتخلص المثقف العربي من دوره كمشاهد، ويتحمّل المسؤولية مهما كانت المعوقات؟