خالد بن إبراهيم الجريوي*

للكتابة وقعٌ خفيف كالمطر الخجول، بالكاد تسمع همسه، لكنَّ بلَلَه يصل إلى الأعماق. أكتب عن الصمت فأشعر أن الصمت رجلٌ حكيم، بلغ من العمر عتيًّا، عرف عن الحياة ما لم يعرف عنها غيره، وعلم أن الكلام مشقة، وأنه أحيانًا إسرافٌ وتبذير، وعلِم حقًا أنه في كثيرٍ من الأحيان شرفٌ لايستحقه الكثير البشر. وأنا أكتب عنه، أشعر به ينظر إليّ ويسألني: "يا هذا من أخبرك؟"

أكتبُ عن البحر، عن هذا البكاء المرير منذ آلاف الأعوام. أحاول الغوصَ في أعماقه، والتعرف على بعض أسراره. أخبرني.. "هل هناك ما تود أن تقوله أيها السرُّ الكبير؟"

أكتبُ عن الشعر فيثور النابغة من منامه الطويل، ينفض التراب عن مقلتيه، يرتدي جلبابه، وتُنصبُ قبّته الحمراء في قلب عكاظ، هناك حيث لا ينتهي الشعر، بل تراه يسير على قدمين. ثم يُعاد المشهد من جديد فتجدُ النابغة في منتصف الخيمة، وفحول الشعر يتوافدون عليه من كل مكان ليحكم بينهم أيهم أشعر.

أكتبُ عن الليل... وما أدراك ما الليل؟ أكتبُ عن نجومه المتلألئة مثل ابتسامات الأطفال، وعن القمر الوديع الحالم يلاحقُ العشّاق في كل مكان. في نظرِي، يبدو الليل مثل أمٍ حنونة تتفقد صغارها، تربتُ على أوجاعهم، ثم تهدهدهم حتى يغطّوا في سباتٍ عميق.

بالكتابة تعيد الحياة كرّتها ودورتها من جديد، فأشعر أن الكتابة هي القبّعة السحرية التي نسمع عنها في الأفلام والمسلسلات ونقرأ عنها في الروايات العالمية.. إنها بِساط علاء الدين الذين تحمله الريح إلى حيث يشاء، إنها متنفّسُ المهمومين كهواء الأوكسيجين للجميع.

حين أمسكُ بالقلم، يبدو الأمر كما لو أنني ذاهبٌ للسفر. أحزم حقائب الحنين، أصفّفُ الذكريات في وسطها، وأرتب المواقف التي عشتها مع الرفاق القدماء الذين مضوا، أو أمضتهم الحياة إلى حيث تريد. أسافر في سطرٍ مستقيم، وحيدٌ يرافقني ليلٌ طويل، والكثير من الوجع.

أشعر أن الكتابة هي الباب الخلفي الذي بداخلنا، نسلكه كلما تكالبت علينا الحياة.. هناك حيث نلتقي بأحبتنا
ونخبرهم عن معاركنا مع الحياة وعن الأحلام التي عشناها معًا وعن الأيام التي تقلبنا مثل أوراق الشجر، نقاوم الخريف والعطش والريح ثم تسقط ورقةٌ منا ليس انهزامًا بل لأنها ملّتِ الرحلة.

بالكتابة، يعود أبي شابًا في الثلاثين من العمر، هناك في القرية حيث القلوب بيضاء كالثلج، لم تخالطها الدنيا، ولم يدنسها بريقها الخدّاع، قلوبهم مثل بيوتهم.. متلاصقة. وأفئدتهم كالطير، صادقون، أنقياء، وطاهرون وتعود أمّي كفراشةٍ تتنقّل بخفّةٍ ورشاقة. وحدها الكتابة تعيدني شابًّا.

حتى قلبي يعود بالكتابة إلى حيث كنت طفلاً، وديعًا يلهو، بلا خيباتٍ ولا أوجاعٍ ولا خذلان صديق. فقط طفل يعبث بالطين، كل همه أن ينتهي من بناء بيته أو ملعبه قبل أن يحل الظلام.
الكتابة هي الفضاء الواسع لمن أراد الإبحار في الماضي والحاضر والمستقبل، من دون أن يتلصّص عليه أحد.


* غرّدها متسلسلة على حسابه في تويتر، وجمعتها "إيلاف" رأيًا خبيرًا في الكتابة.