عشرون عاما مضت على ذلك الحلم الكبير، وقد كنت محظوظا، أن نصفها كان جزءا مني، وكنت جزءا منه. لقد شاءت المقادير أن يدخل الشاب في بداية عشرينه، ذلك الملعب الكبير، المهيب، شديد العنفوان، ويخرج منه ببعض من الحكمة، وكثير من الامتنان.

وبعد تلك السنوات الشارقة، علي أن اتذكر أن سر إيلاف، وساحرها المسحور، وركنها الركين، كان عثمانها البقيّ، ذلك الفتى الستيني، الذي يقتحم العواصف، ورؤوس الاعاصير، ببهجة من هو ذاهب لموعده الغرامي، للمرة الأولى.

لا يمكن أن أتذكر عثمان دون أن أتذكر دماثته، وولعه، وإنسانيته. رجل لا يملك ما يملك، فكل الأبواب والأماكن مفتوحة لأصدقائه، ولمن يحبهم، ولمن يعتقد أنه سيحبهم يوما، ولمن يعتقد أنه لا يكرههم.

لقد كانت حياته تجسيداً لأفكار ذلك العالم الاسكتلندي، الباقي في العصور، الباغي على القرون، آدم سميث: "دعه يعمل… دعه يمر".

لقد وقف عثمان على النهر وهو يرى الكثير من الاشياء التي أسقطها الزمن هناك، دون أن يحرك سيفه، ولا فأسه. عدالة الكون محكمة أبدية، غريبة الايقاع، وفية التوقيت. لقد كان رجلاً كبيراً، شديد الوفاء، عجائبي القدرة على الصبر، والانتظار.

حين التقيته في سنيّ العمل الأولى، كان اللقاء بين شاعر صغير، متوحش، ونخلة كبيرة. كان ظلالها عليّ حفيا، وفيا، نديا، بهيا، بقيا. كان رب هذا البيت الالكتروني، وحارس البوابة الكبيرة. وكنا نعود ليلا بالقنابل والمتفجرات والجثث، والمصائب التي لا تحصى، وكان الأب الصبور الوقور، يقول: ناموا الليلة وغدا يوم اخر. كان يغسلنا بالماء والثلج والبرد، ويخوض عنا المعارك دون أن نعلم. الفارس النبيل أدى دوره، وعليك أن تعمل، وتتجدد، وتتعلم.

لقد كان لقاء بين عالمين، لم يمنعهما شيء من التواصل. لقد كنت أحاور الرجل الذي عبر عمري مرتين، بكثير من الحماسة، والغضب، والتوحش، وكان الكبير يلقي الدروس خلسةً، ويترك البقية الباقية للعمر، فهو الناصح الأكبر، والمعلم الذي لا جدال عليه.

كل الخلافات كانت تحل بمقعدين خشبيين، في "نايتس بريدج"، أمام شاشة الكترونية، لا شرقية بل غربية، تضيء، وتنقل لنا مقطوعات موزارت. وبين الحركات الموسيقية، وشهقات الكمان، أسمع العتاب. أتعلم الدرس. التقط الفكرة. اعتذر. نبتسم ينتهي كل شيء.

كان نخلتي الوحيدة في أرض شيكسبير، وجورج السادس، وديكنز، واليزابيث، وهوكينغ، والبيتلز، والباصات الحمراء.

وكنا نمر بالحجرات قربا وازدلافا، في "نايتس بردج"، نمشي الممشى النهاري، وينتثر التاريخ حولنا، غير بعيد عن فندق اوسكار وايلد، ومتحف فكتوريا وألبرت، نحث الخطى إلى سوهو الشعراء، والفنانين، وأصحاب الأحلام المشوشة.

وفي كل مكان فكرة، وحوار، ومشاهد لا تعد، ولا تحصى.

نلهج بالمتنبي، نستذكر "هيستنغز"، نفتش عن ماكبث، نحاور بيتهوفن، ونمشي كل الشوارع القديمة، والأزقة اللندنية المبهجة. وبعد رحلة صحبني فيها إلى عالم الموسيقى الكلاسيكية البديع، تعرفت على الجد الوقور هايدن. كان هايدن الرحلة البهية، التي لا تنتهي إلا برحيل كل صوت، وانطفاء كل شمعة، وياله من حنين ذلك الذي تقطفه من القلب، وتزرعه موسيقاه في الذاكرة. حين أشاهد لندن، وأتذكر حبرها الستيني، تطوف كل المشاهد الحية، مصحوبة بالسيمفونية 46 لهايدن، تتهادى من بعيد. الوقع خفيف، لطيف، شفيف، لكن رماح الذاكرة قاتلة.

كان عثمان صاحب الأفكار الجريئة، وكان المتحرك المثير، الذي لا يتوقف.

إنني أتذكر مجموعات من الصور البديعة، واللقطات التي تومض في القلب، والذاكرة. مشاهد من كل مكان، كنت فيها أرشف من هذا المعين الكبير، هذا القدح المعلّى، بخبرة العقود، ودراسة القرون.

في المغرب
وفي المغرب كنا مع سي حسن كانت ليلة نادرة ان يجتمع فيها الجدين: المتبني جد الشعر العربي، وهايدن جد الموسيقى الوقور. وكنا تحت الظلال الظليل.
في دارة عثمان العمير، المراكشية، التي تتلصص عليها جبال أطلس، وتغازل أسوارها النجوم، كنا ثلاثة: السيد العمير، وأنا، ونمر مراكش، كاهن الدار البيضاء، حسن العلوي.

كانت ليلة هادئة، هدوء كمان عتيق، على غير عادة العواصف، ونيران رؤوس الجبال.

هند لم تنجزنا ما تعد، ودعد تاهت، وهريرة مضى بها الركب مرتحلا، وتركتنا سعاد متبولي القلوب، وكل الطرق تؤدي الى الهدوء، إلى الجدران، والذاكرة.

النمر المتحفز، كان ذاكرة تنبض، وتتداعى القصص، ريحانا، ونورا، ونيرانا. قررنا ان تكون ليلة لا ليل فيها الا قليلا، قليلا، قليلا، قليلا، قليلا، قليلا، قليلا، قليلا، قليلا، قليلاً، قليلا. اوقدنا الشموع على طريقة مجالس بني العباس، وكان الوقت ليلا، والشعر ضوءا... ثم هربنا الى المتنبي.

قرأ “سي حسن”، بصوته القادم من شهقات آخر فرسان بني حمدان، علينا قصيدة المتنبي. غرقنا فيه، حتى آخر رشفة في حقول العنب، وأول قطرة في ربيع القمح. قلنا المتنبي كان النقطة الأخيرة، في جملة الشعر العربي.

يجادلنا السيد العمير أن لكل شاعر طريقة، وأن لكل منهم صوته، وسوطه، وعصاه، وسحره، وشعوذته. لكن النمر المراكشي يشهق بالمتنبي بيتا وقصيدة وشعرا. كذلك انا.

طار الحب ياسمينا، وطال الليل نجوما، وبدات اقرا للنهمين:

“فديناك من ربع وان زدتنا كربا”...
القصيدة المعشوقة للنمر، ورفيقه، ولي.

انهمر شعرا، قصيدة إثر أخرى. لكن سي حسن، بحاسة النمر، وحساسية الثعلب، يهطل مرة اثر أخرى، شغبا، وحبا، وتلصصا على الخدور. فهنا ملاحظة على طريقة في الصوت، وهنا طريقة للقصيدة، وهنا طريقة للإلقاء، كأنما هو الصوفي في عالم المتنبي الساحر المسحور، ونحن الدراويش.

وأتذكر البحر، وتلك الفاتنة تقول:

- مرحبا أنا سيسيليا ...

وهي تمد يدها المليئة بالتجاعيد وتنظر إلي بصرامة. لم تمض ثواني حتى تذكرتها. إنها سيسيليا ساركوزي، المرأة التي أدخلت زوجها قصر الإليزيه ثم خرجت وحيدة من البوابات الخلفية لتلبي نداء القلب. وبالفعل حصلت عليه مع ريتشارد أتياس الذي يبدو أنيقاً ولطيف المعشر مع ابتسامة لا تفارقه حتى في أحلك الظروف.

في الحقيقة لم تثر إعجابي وهي تخطو أمامي مستبقة زوجها الجديد بخطوتين كي تتعرف على اليخت الجميل "آمون" بصحبة ناشر إيلاف السيد العمير.

حين خرجت وهي تتحرك مثل الجنود الذين أنهوا معسكرهم التدريبي قلت إنني لم أرتح لها. العمير يقول إنها لطيفة ثم يغمز بابتسامة : "يبدو أن هنالك إتحاد لقصار القامة ضدها".

بالطبع لم يكن يقصدني أنا وساركوزي.

وأتذكر تلك الرحلة كيف بدأت. بدأت رحلة البحر إلى جزيرة "فيرومنتيرا". بدأت المحركات في الدوران. بدأ زبد البحر في التشكل فقاقيع بيضاء تسر الناظرين. وبدأت أولى اكتشافاتي الجديدة. إنها "شارلي باسي" المغنية التي تسكب الفراديس الخضراء في أذنيك. من هنا اكتشفتها ومع المرشد الروحي ذاته مثلما اكتشفت "أم كلثوم" لأول مرة في مراكش، وتوالت بعدها اكتشافاتي لعوالم "فرانك سيناترا" و"هاندل" و"موزرات" و"اليزابيث الأولى" والكثيرون غيرهم في جولات المشي اللندنية.

انشغلت بالتفتيش عن "سمر ست" بارجة صاحبة الجلالة التي قال لي السيد العمير أنها كانت هنا أمساً، لكنني لم أجدها في هذا "المستحيل الأزرق" كما كان يسميه الراحل الجميل صالح العزاز، والباقي الأجمل قاسم حداد.

نحدق في البحر سوياً ونحن جالسان في مقدمة "آمون". نتحدث عن الجاذبية. "كم كان نيوتن عظيماً" قلت.

قال لي: "نعم وتصور أن اكتشافاً مثل هذا يتأخر آلاف السنين... لم يتحرك العلم إلا حين تحرر من السلطة البطريركية التي كانت وقتها تحارب كل محاولة علمية لاكتشاف الكون".

وكانت الرحلة من بحر، ثم صيف، ثم بحر.

كانت هذه الأفكار تتصارع في رأسي ولم يقطعها سوى "آمون" اليخت الجميل الذي يستلقى على البحر مثل أنثى جميلة. "ما معنى آمون؟" قلت. يجيب السيد العمير: "إنها مأخوذة من بيت لطرفة أبن العبد يعني فيه الناقة المريحة". يحضر لي الديوان وأقرأ البيت. ولا أعرف لماذا نسيت أن أسأل لماذا آمون؟.

الطريف في تلك الليلة هي قصة كتاب لاحظت أن العمير يدون فيه بين فترة وأخرى بضع كلمات بخط يده. إنه إحدى روايات الروائي المغربي محمد شكري. قصة وجود هذا الكتاب هنا مضحكة جداً. لقد أُهدي الكتاب إلى صحافي سعودي كبير. واضح أنه لم يكن مستعجلا على قراءته، فتلقفه العمير الذي كان يهوى القراءة في الحمام.

ويبدو أن العمير مع زحام الأفكار، الذي يعيش فيه معتادا ومختارا، قد نسي الكتاب في الحمام وحين دخل شكري ورأى كتابه في الحمام جن جنونه بطريقته وشخصيته القلقة وقذف بالكتاب في البحر، ولم يعد الكتاب إلا بعد تدخل العمال وتجفيف الكتاب وما تبقى من الصفحات.

حين قلت أنني أريد أن آخذ هذا الكتاب الوثيقة، قال العمير مداعباً: لا.. لا.. هذه بضاعتنا ردت إلينا... ولكن من البحر!".

في الليل كنا نقرأ المتنبي بينما نسائم الهواء الجميلة في "كان" تهز المعاطف وخصلات الشعر وصفحات الكتاب.

أقرأ بصوت لا يسمعه إلا الليل وأبا محسّد حاملاً أمله وألمه وطمعه على كتفيه وسائراً في أرجاء المعمورة:

"تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم".

يستمع العمير كما الصوفي ويتحدث بهدوء: "تخيل لو أنه ما زال حياً بيننا، بالتأكيد سيتم محاكمته في محكمة العدل الدولية على هذا البيت الهتلري!".

فعلاً.

ومن البحر إلى الريف الإنجليزي.

كنت جالساً على مقعدي في القطار الذي عبره عثمان العمير منذ عشرين عاماً باحثاً عن الهدف ذاته: بيوت شكسبير الخمسة، وقبره، وقصته التي لا تزال تثير الباحثين، والقراء، وتتكشف عن تفاصيل جديدة يوماً بعد آخر، حتى أن الحدث الأخير كان صورة متوقعة لشكسبير خلال فترة شبابه وبدا فيها أنيقاً متحفزاً هادئ النظرات.

بينما كان القطار يعبر بنا الحقول والساعات والأفكار سألت الأستاذ العمير، وهو منحنٍ على كومبيوتره المحمول مثلما انحنى مايكل أنجلو على تمثال موسى، عن قصة الاتهامات المتواترة عن أن شكسبير لم يكن شخصاً حقيقياً فقال لي إن ذلك "صحيح فلم توجد بعد وفاته سوى عدة اوراق بسيطة كتبها بخط يده.. والبعض يقول أن صديقه "مالرو" هو من كتب له مسرحياته".

ودخلنا في حديث طويل عن "السنوات الضائعة" في حياة شكسبير وهي السنوات الستة التي سبقت وفاته.

وهناك الكثير من المشاهد، والشواهد، والكثير مما يقال، وما لا يقال. لكنني شخصياً محظوظ بأن كنت في تلك اللحظة، ذلك العمر، هذا المكان، مع الكبير عثمان. لقد كانت هدية القدر.