ثمة أخلاق لا تكون إلا في الفرسان النبلاء.. أخلاق عالية يختص الله بها من يشاء من عباده.. يعليهم بها درجات في الدنيا والآخرة، ويكرم بها أصحابها والذين حولهم.
من بين تلك الأخلاق خُلق كريم أودعه الله الأبوين لتنهض الحياة بالأبناء..من دون هذا الخُلق سينشأ الأبناء نشأة قاسية معقدة،ويؤول أمرهم إلى شتات.
إنه خُلُق الرأفة..ذلك الخلق السماوي الذي يؤكد إنسانيتنا أو ينفيها..هي في الوالدين فطرة، وفي سائر الناس فروسية نادرة لا تكون إلا في كرامهم.
الإنسان الرؤوف إن لم يكن مَلَكًا كريمًا فهو شبيه به.. فيه الإيثار والعفو والرحمة واللين والتغاضي وكل صفة باهرة آسرة.
قارن بين اثنين.. قاسٍ ورؤوف واكتشف الفروق بنفسك.. هي فروق جذرية فيهما وفي توفيقهما، وفي حب الناس لهما، وفي مآلاتهما.
وإن كان الجَمال الظاهر يأسر العين فإن الرأفة تأسر الروح، ولا أبالغ لو قلت إن الرأفة جوهر الإنسان، وما تَمَكّن منها أحد إلا اقترب من الكمال، وما تجرّد منها مخلوق إلا اقترب إلى طباع البهائم.
تأسرني الرأفة في كل شيء.. الرأفة الممزوجة باللين.. تلك التي تمسح على وجه الحزين فتسعده، وتضم الخائف الوجِلَ فتطمئنه، وتبلسم جراح المنكسرين.
الرأفة تلك الغيمة التي إن تشكّلَتْ ملأت المكان ظلا ونداوة وبهجة وحياة.
حين أرى الناس يتمايزون فيما بينهم من طباعٍ يختصون بها يروق لي ذو الرأفة مهما قَلَّتْ مزاياه الأخرى.
الرأفة هي بوصلة بقلبي.. هي الشمال التي تتجه إليه مشاعري.. أشعر وكأنها جهةٌ سماوية مضيئةٌ بالنجوم، مليئةٌ بالغيوم.. النسمات الباردة تحفها من كل مكان.
الرأفة ليست ضعفًا كما يتصورها قساة القلوب، وصخور الدروب.. لا لا..
إنها نفحة سماوية تنعش الروح، وتبرئ الجروح، وتطول فيها الشروح، والمؤكد أنها لا تكون إلا في خِيرة الناس.
يبهرني العطوف الرؤوف بروحه الطيبة وأنا أراه ينتقي أعذب الألفاظ، وأرى يده وهي ترتب على أكتاف المرهَقين، وأشاهد ابتسامته وهي تطوف على من حوله بنظراتٍ يسكنها اللين.
هكذا يبدو العطوف وكأنه نسمة ساقها الله للطيبين الذين يبيتون يناجون ربهم في السحر، فيبعثه الله لهم آسيًا مواسيا.
كلما رأيت رؤوفًا أيقنت أن الله قد اصطفاه عن غيره بهذه الصفة النبيلة..صفة الأنبياء وأولي العزم من البشر.
هي صفة الأسوياء المتشبعين بالحب والحنان،ولذا أحبها الله،وجاء في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال:«إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه».
وهكذا طبع الرؤوف.. تراه بين الناس أحلمهم على غيره، وأعطفهم على مخطئهم، وأنبلهم على من زل، وأرفقهم بمن ضل، وأيسرهم حين يكون صاحب حق، وأكرمهم بالمال والنفس والحال.
في ذوي الرأفة والرفق شيء كالأبوّة،أو شيء كالسحر..يجعلنا نستطيب منهم ما يفعلون،ونستعذب منهم كل شيء،ولا نرتاب فيهم؛وجوههم مشرقة بالنقاء،وأصواتهم دافئة،وقلوبهم مفعمة بالعطاء.
لو أن لي دعوة مستجابة،أو قدرة خارقة، لنشرت الرأفة في القلوب؛ليعم الحب العالم،ونحيا لذاذات الجنان قبل الأوان.
الله أَرأفُ بنا لو شاء لغمر قلوبنا بها.
لكنها دار اصطبار واختبار؛فيها الخير والشر،والرأفة والقسوة، والنور والظلمة.
إن سرك أن ترى أقرب الناس شَبَهًا بالأنبياء فاقترب من رؤوف عطوف،وأَسْلِمْه قلبَك،ولن يَهديك إلا إلى صواب ومُنْزِلِ الكتاب.
بالرأفة تطيب الحياة، وتهدأ أرواح أنهكتها الهموم والشرور.
بالرأفة تعيش النقاء والسلام والصّفاء داخل روحك وعقلك وقلبك ونفسك ظاهرًا وباطنًا .
قفلة:
قسوة الإنسان على أخيه الإنسان وباء قاتل لا تقضي عليه إلا جُرعة رأفة من قلوب تنضح بالحب والحنان.
اللهم جُرعةً بل جُرُعات.. نَمْنَح فيها ونُمْنَح، ونَشْفَى بها ونَفْرَح، إنك أنت واهب الأفراح، ومُبْرِئ الجراح ….