في ظلّ الظروف الكارثية التي تعيشها الأراضي الفلسطينية واسرائيل تسقط كل المعادلات السياسية والتكهنات العسكرية ومفاهيم الربح والخسارة والحدود والسلطة والحكم؛ وتبرز تلك اللحظة الحاسمة التي تعني كل إنسان في الوجود مهما كانت هويته وانتماؤه وتضع دول العالم كلها أمام مسؤولية أزمة انسانية حقيقية !

حدثان بارزان فتحا الباب على مصراعيه أمام شعوب العالم بأسره وتركا الرأي العالمي أمام استحقاق أخلاقي وإنساني حقيقي ، الأول وهو التهجير القسري للآهالي الفلسطينيين من حيّ الشيخ جرّاح في القدس الشرقية مما يُعدّ ممارسة صريحة للفصل العنصري ، والثاني هو قصف المقرات الاعلامية الدولية في غزة . وفي كلتا الحالتين انتهاك واضح وصريح للقانون الدولي العام والمواثيق العالمية المُجمع عليها في الأمم المتحدة .
وفي عزّ التعاطف الدولي مع انتفاضة أهالي القدس السلمية، قررت "حماس" اطلاق صواريخها باتجاه اسرائيل ، وبذلك تحولت الانظار الدولية ، وتحولت المواجهات من انتفاضة مدنيين سلميين بمواجهة سلطة احتلال جائرة، إلى مواجهة صاروخية ، فخرجت اسرائيل من مأزقها لتتخذ من ذلك ذريعة لتدمير ما تبقى من القطاع المنكوب !
في وقتٍ يعجز الانسان فيه عن الكلام ويبحث عن خِطابٍ عقلاني متوازنٍ يحاور فيه عقلاء المجانين من صناع الموت، فلا يجد الا اشلاء رضعٍّ وبقايا أطفال!
انها لحظةٍ يُصبِح الحليم فيها حيرانًا، وأمام أحداث أليمةٍ تفتح في هيكل الانسانية جرحًا لا يُمكن لمخلوقٍ أن يتجاهله، ولا يمكن حصر تفاعلاته على الأجيال اللاحقة فيما بعد.
ويرى كثير من المحللين أن "حماس " بصواريخها قدمت لنتنياهو هدية على طبق من ذهب اخرجته من حالة الاستعصاء السياسي في بلاده و التي استمرت في اربع دورات انتخابية متكررة، من جهة ، وحولت الانظار عن التضامن السلمي والمبادرة الشعبية الفاعلة إلى مواجهة عسكرية دخل على أثرها كل اللاعبين الاقليميين الذين يسعون لتحقيق مكاسبهم الخاصة على حساب القضية .
وفي وقت تُظهرُ فيه بعض المواقف الرسمية الدولية سُخطًا "انتقائيًّا" تجاه دماء البشر المسالة، تجد المنظمات الانسانية والحقوقية نفسها مطالبة بنزع الشرعية عن ممارسة شتى انواع الارهاب كائنًا من يقف ورائها أفرادًا او انظمة او دولاً او أيديولوجيات.
وفي هذا السياق قالت منظمة العفو الدولية، الثلاثاء 11 مايو/أيار 2021، إن القوات الإسرائيلية استخدمت القوة المفرطة وغير القانونية بشكل متكرر ضدّ المتظاهرين الفلسطينيين السلميين في القدس الشرقية المحتلة، داعية أعضاء مجلس الأمن الدولي لعقد جلسة مفتوحة ضمن سياق التطورات الأخيرة ( وقد عقدت الجلسة ولم يتمخض عنها شيئ يُذكر)
كما دعت المنظمة، في بيانها، السلطات الإسرائيلية للتوقف فوراً عن ترحيل أهالي حي "الشيخ جراح"، وإنهاء التهجير القسري المستمر للفلسطينيين من القدس الشرقية، مشدّدة على ضرورة وقف أعمال بناء وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية والبنية التحتية الخاصة بها في الأراضي الفلسطينية المحتلة .
ان منطلق العدالة الانسانية يحتم علينا الا نقف ساكتين امام مرتكبي الجرائم والمتورطين فيها، بعد ان طاول العنف المنظم الأطفال والرضع، الذين أقلهم يحمل عاهة جسدية ونفسية سوف تلازمه مدى الحياة ، كل ذلك يحدث أمام أعين العالم الذي يرى ويسمع ذلك عبر عدسات وسائل الاعلام .
وعلى الرغم من انه لم يعد هناك امكانية للتعتيم عن الجرائم في عصر بات فيه بمقدور كل شخص توثيق ما يحدث بلحظته، فإن اسرائيل قصفت برج "الجلاء" المؤلف من 13 طابقا ودمّرت مقرات 23 وسيلة إعلامية محلية ودولية، من بينها مكاتب قناة الجزيرة ووكالة أسوشيتد برس الأميركية . بل و الأدهى من ذلك وأمرّ أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اعلن أنّ المبنى كان "هدفا مشروعا تماما"، مؤكّدا أنّ استهدافه جاء بناءً على معلومات استخبارية!
فهل اصبح قصف المقرات الاعلامية هدفًا مشروعًا، أم انه عمل لا يفهم منه سوى عزل غزة بالكامل ومنع نقل ما يجري هناك!
إذن، كان لا بد من خطوة ضرورية، وقد قامت بها منظمة "مراسلون بلا حدود" وذلك بتوجيه شكوى إلى المدعيّة العامة في المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا بتاريخ 16 مايو/ أيار الجاري، ورد فيها ان المنظمة "تعتبر أن الاستهداف المتعمّد لوسائل الإعلام والتدمير الكامل والمتعمّد لمعداتها يُعدّان جريمة حرب وفقا للمادة الثامنة من ميثاق روما". ومما جاء في نصّ الشكوى أن "الجيش الإسرائيلي لم يتسبّب فقط بإلحاق أضرار مادية كبيرة جدا بأقسام التحرير التي يُعَدّ صحفيوها ومعداتّها ومَرافقها محميين بموجب مقتضيات حماية السكان المدنيين، بل أعاق أيضا التغطية الإعلامية لنزاع يؤثّر بشكل مباشر وخطير على السكان المدنيين".
أما عن جدلية الارهاب والحرب فنتسائل: ان كانالارهاب هو قتل للأبرياء وهو أمر غير مشروع قطعًا، فهل الحرب تُعدّ عملا مشروعًا؟
الحقيقة ايضًا ان الحروب لا تقتل المذنبين فقط! من هنا فإن الحروب كانت وستبقى جائرة ولا يمكن إضفاء المشروعية عليها – من وجهة نظري- طالما انها تطال الابرياء تحت وهم الادعاء بامتلاك الأحقية، وستجد الانسانية نفسها أمام واقع كيانات أصولية أشدّ بأسًا وأشد تنكيلا لأنها حاضنة تخوف وشعور قائم دائم من " الآخر" وستعمد هذه الكيانات على اكتساب شرعيتها بإخضاع اللاهوت لها وتتحول الصراعات من خلاله الى حروب آلهة على أرض ضحيتها الاول والأخير الانسان!
سؤال آخر هو : أمام واقع الكيانات المتطرفة هذه هل يوجد فرصة للسلام؟ وماهي طبيعة العلاقة الرسمية القائمة من بعض الاتفاقيات.
في الواقع نحن امام تفاهمات شكلية بين دولة تصرّح علنًا انها دينية "يهودية" مع أنظمة غير ديموقراطية قد لا تمثل شعوبها من جهة كما انها عاجزة ان ترقى لمستوى المسؤولية في السياسة الدولية من جهة أخرى.
وهذه التفاهمات المصلحيةلا ترقى لصنع السلام بحالٍ من الأحوال، كون الطروحات لم تؤسس ولم تسعى لسلام حقيقي إنساني مع الشعوب وأول تلك الخطوات هو وقف الظلم واعادة الحقوق لأصحابها . إن عقلاء اسرائيل والعالم يعلمون جيدًا ان السلام لا يتحقق الا في ظل انظمة ديموقراطية! كما يعلمون جيدًا أن السلام لا يتحقق الا بنظام علماني ينزع المشروعيات اللاهوتية عن العمل السياسي ، وعلى اسرائيل ان تختار بين ان تكون دولة علمانية ديموقراطية تحقق المساواة والعدالة لجميع ساكينها او ان تكون دولة "يهودية" تمارس العنصرية ؛ وعلى الجانب الفلسطيني عدم التورط والانخراط بأي نوع من أنواع الظلم والوقوع في فخّ الانجرار الى العنف والنزاع المسلح، ولعل قضية حيّ الشيخ جراح التي اكتسبت تأييد عالمي خير دليل على أن الاحتجاجات السلمية المحقة لأولئك الشجعان الذين يتمتعون بصبر غير محدود ترغم الخصم على اعادة الحقوق كونها تضعه أمام استحقاق أخلاقي يجبره على العودة عن غطرسته.

أخيرا، هذه القصة!
في حوار أجرته الصحافية كاثرين إنغر مع المناضل اللاعنفي الفلسطيني مبارك عوض أواخر الثمانينيات عندما سألته عن الانتفاضة الأولى الغير مسلحة: قلت إن بعض زعماء العالم العربي يَخشَوْنَ الانتفاضة، وانهم قد اتصلوا بك لكي يتحدّثوا معك عن استراتيجيات العمل اللاعنفي. لماذا يخاف هؤلاء الزعماء من الانتفاضة ؟
أجاب مبارك عوض: قوة هذه الانتفاضة هي أنها لا تأتمر لزعامة رجل أو ملك... عندما يبدأ الناس بأخذ مبادراتهم بأنفسهم ويتزايد عددهم أكثر فأكثر... فإن هذا يُشَكِّل خطرا على السلطة. عندما يقوم الشعب بما عليه ان يقوم به تنتفي الحاجة تدريجيًّا لأن تطلب منه الحكومة ذلك.... وعندما قرر الفلسطينيون عصيان السلطة فإن البلدان العربية الأخرى خشيت ان تفهم الشعوب العربية في كل بلد عربي، عبر الانتفاضة، أنها تملك الشجاعة والقدرة على ان تقول لا لأولئك الذين يقودوننا وان نرفض طاعة أوامرهم .

وفيما بعد قال : إما أن تقع كارثة وإما أن يحل السلام!