من قبل اللقاء الأخير المبرمج المختصر بين الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ورئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، في واشنطن وما بعده، كان واضحا مقدارُ المراوغة في البيانات والتصريحات التي شغل بها الطرفان الأمريكي والعراقي، نفسيهما بشأن التواجد الأمريكي العسكري في العراق.
فإذا كان الكاظمي ووزير خارجيته ومستشار أمنه (القومي) مضطرين إلى استخدام اللغة البديلة، والموافقة المبطنة على بقاء القوات الأمريكية المقاتلة، ولكن بعد تغيير صفتها (إعلاميا) من (القتالية) إلى (الاستشارية التدريبية)، لأنهم يعلمون بأن أمريكا لن تخرج من العراق لا اليوم ولا غدا ولا بعد عمر طويل، ويعلمون، أيضا، بأن هذا الأمر ليس من اختصاصهم، بل هو من أسرار العلاقة الإيرانية الأمريكية السرية، حصرا، فما الذي يجعل رئيس أقوى دولة في العصر الحديث يلجأ إلى التقية واللف والدوران حين يرضى بهذه المسرحية، وهو يعلم بأن أمريكا، لا قبل ولا بعده، يمكن أن تتحمل خروجها من العراق؟.
هل هو فعلا خائف من إيران ومن مليشسياتها ويختار المسالمة والتهرب من المواجهة، أم هو مقرر، وهو بكامل قواه العقلية، أن يكافيء إيران ويشتري موافقتها على العودة إلى فينا بمنحها العراق كاملا لها تتصرف به كما تشاء؟. وفي الحالين فإن بايدن يبرهن على أن العراق الذي تتحمل أمريكا مسؤولية ما حل به كمن خراب على أيدي الإيرانيين ومليشياتهم لم يعد، في حسابه، أكثر من عبء ثقيل ويريد أن يرميه عن كاهله، وليذهب أهلُه إلى الجحيم.
فمن خلال مسارعة وكلاء النظام الإيراني العراقيين، هادي العامري وعمار الحكيم وحيدر العبادي ومقتدى الصدر وغيرهم، إلى مباركة النتائج التي تمخض عنها الحوار، واعتباره إنجازا وطنيا، ومن ورقة الملاحظات التي فضحتها كاميرات المراسلين، والتي كتب عليها بايدن قبيل لقائه بالكاظمي، "إيران تدرس كبح الهجمات" يتبين للمراقب الناظر إلى المسألة من بعيد، أن هناك توافقاً أمريكيا إيرانيا على صياغة هذا الحل الإعلامي المغلّف لتبرير توقف الفصائل المسلحة عن مهاجمة القواعد الأمريكية في العراق وتراجعها عن المطالبة بإخراج القوات الأجنبية (الأمريكية) رغم أنها تعلم بأن أمريكا باقية في العراق إلى أن يأذن الله.
ينص البيان المشترك الصادر في ختام الحوار الاستراتيجي العراقي الأمريكي على أن "وجود الأفراد الدوليين في العراق هو فقط لدعم حكومة العراق في الحرب ضد تنظيم داعش".
ويقول أيضا "إن الولايات المتحدة تعتزم مواصلة دعمها للقوات الأمنية العراقية، والحفاظ على العلاقات الاستراتيجية بينهما في جميع القضايا الثنائية وبما يخدم المصلحة الوطنية".
ولكنه يقول أيضا إن "سحب القوة القتالية الأميركية لا يشمل قوات التحالف الموجودة في العراق".
ورغم ذلك فقد رحب تحالف الفتح الذي يتزعمه هادي العامري "بما حققه المفاوض العراقي من إنجاز وطني بالاتفاق على خروج القوات القتالية بشكل كامل في نهاية هذا العام"، واعتبرها "خطوة إيجابية متقدمة باتجاه تحقيق السيادة الوطنية الكاملة”. وشكر "المفاوض العراقي على هذا الإنجاز".
ثم تبعه مقتدى الصدر ببيان صحفي قال فيه، "شكرا للمقاومة العراقية الوطنية. فها هو الاحتلال يعلن عن بدء انسحاب قواته القتالية أجمع،. لننتظر وإياكم إتمام الانسحاب". "مع العلم بأننا قد بينا شروطاً فيما سبق، ومع تحققها يجب وقف العمل العسكري للمقاومة، مطلقا، والسعي لدعم القوات الأمنية العراقية من الجيش والشرطة لاستعادة الأمن وبسطه على الأراضي العراقية، وإبعاد شبح الإرهاب والعنف والمتطفلين وأدعياء المقاومة".
يقول الرئيس الأمريكي إن الولايات المتحدة "تحترم سيادة العراق والقوانين العراقية" وإنّ بلاده "ستنهي مهمتها القتالية في العراق خلال العام الحالي"، و"نحن ملتزمون بتعزيز الشراكة مع العراق، ودورُنا هناك هو المساعدة في التدريب والتصدي لداعش".
ومؤكد أنه أعرف من غيره بأن داعش (الجديدة) هي إيرانية، لحما وعظما ودما، ولا تظهر إلا في المواسم والأعياد.
فداعش هذه التي سيبقى بايدن لمحاربتها، (إن كانت هناك داعش حقيقية موجودة فعلا)، لا تقوم بعملياتها إلا تحت سمع الجيوش العراقية وفصائل (المقاومة) والحشد الشعبي وبصرها، ولا تستطيع، ولن تستطيع وقفها، ما دامت متنقلة، ولا تمارس نشاطاتها إلا حين تقتضي الضرورة، وعندما يطيل الرئيس الأمريكي تردده في رفع العقوبات، ويتخوف من القبول بتجديد الاتفاق النووي القديم دون تغيير، مع عدم تجاوز الملف النووي إلى ملفات أخرى كالصواريخ والمليشيات وحقوق الإنسان.
وقد لاحظ كتاب زملاء آخرون أن الادارة الامريكية لم تكلف نائبة الرئيس باستقبال الكاظمي ولا وزير الخارجية لصفة السياسية والديبلوماسية، ولا وزير الدفاع لكونه القائد العام للقوات المسلحة، ولا أي موظف من وزارة الخارجية أو الدفاع، واقتصر الاستقبال على الوفد الحكومي العراقي الذي سبق الكاظمي في الوصول إلى واشنطن، وعلى منتسبي السفارة العراقية فقط لا غير. ثم تم تحميل الوفد العراقي جميع نفقات الإقامة والتنقلات طيلة مدة الزيارة،
ولم يعقد اجتماع رسمي بين الرئيس بايدن والرئيس الكاظمي والوفدين المرافقين لكل منهما على طاولة اجتماعات، بل كان لقاءً عابرا بينهما وحدهما على غير العادة.