ربما لم يحظ خبر تعيين سفير لدولة ما لدى دولة أخرى باهتمام يضاهي ما حصل عليه نبأ تعيين أمير حايك سفيراً لإسرائيل لدى الامارات، حيث تصدر الخبر الكثير من المواقع ونشرات الأخبار بمجرد اعلانه. وهذا الاهتمام الكبير يعود ـ باعتقادي ـ لأسباب عدة منها الاهتمام الاعلامي المكثف بمسيرة تطبيع العلاقات بين دولة الامارات واسرائيل، حيث تحظى كل خطوة يخطوها الجانبان للأمام باهتمام اقليمي ودولي كبير، ومنها أيضاً ما يتعلق بمغزى تعيين خبير اقتصادي محنك كأول سفير اسرائيلي دائم لدى الامارات.
الرسالة الأهم التي يمكن التقاطها للوهلة الأولى من تصريات وزير الخارجية يائير لابيد بشأن تعيين أمير حايك سفيراً لبلاده لدى الامارات تتمثل في أولوية الاقتصاد والعلاقات التجارية والاستثمارية في علاقات البلدين، حيث يحتل الاقتصاد أولوية قصوى في الفكر الاستراتيجي للجانبين منذ بداية توقيع اتفاقية السلام في سبتمبر عام 2020، لذا جاء اختيار سفير اسرائيلي في هذا التوقيت الحساس للغاية، وكأنه يؤكد للجميع حقيقة مايدور بين أبوظبي وتل أبيب، حيث يتحدث الطرفان كثيراً عن الاقتصاد والتعاون المتبادل والمصالح المشتركة، ولكن هذا الحديث المتكرر لا يمنع الكثيرين من الترويج لنظرية المؤامرة والقاء الاتهامات جزافاً هنا وهناك، حتى جاء نبأ تعيين السفير حايك ليدحض الادعاءات المضللة بشأن موقف الامارات من الشعب الفلسطيني، وليثبت أن الاقتصاد هو رهان البلدين في المرحلة المقبلة، وأن اتفاق السلام يستهدف تحقيق الأمن والاستقرار وارساء ثقافة التعايش، باعتبار أنه لا اقتصاد ولا تجارة من دون سلام حقيقي يؤمن به الجميع ويعملون على ترسيخ قواعده.
السفير أمير حايك كان يشغل حتى تعيينه في هذا المنصب رئيس جمعية الفنادق الاسرائيلية وهو خبير اقتصاد معروف، ولعب دوراً كبيراً في رفع القدرات الصناعية الاسرائيلية ومعدلات الصادرات وبناء التحالفات الاستراتيجية الاسرائيلية مع الكيانات الاقتصادية العالمية الكبرى، حين تولى منصب مدير عام معهد التصدير الاسرائيلي حتى عام 2001، وتولى رئاسة العديد من الشركات الكبرى وإدارة اتحاد أرباب الصناعات في اسرائيل حتى عام 2015، ثم أسس شركة خاصة، وتولى منصب الرئيس التنفيذي لها، وهو ما يعني أن الرجل بعيد عن مجالي الأمن والسياسة، اللذان يمثلان خلفية أساسية لغالبية الدبلوماسيين والسفراء الاسرائيليين، والحال كذلك في جميع دول العالم بطبيعة الحال، الأمر الذي يعكس أولوية الاقتصاد والتعاون التجاري والاستثماري والتقني والصناعي والسياحي في العلاقات الاماراتية ـ الاسرائيلية؛ وهو ما أشار إليه بوضوح وزير الخارجية لابيد حين قال "أمير حايك لديه ثروة من الخبرة والمعرفة في مجالات الاقتصاد والسياحة، وهو الشخص المناسب لاضفاء الطابع المؤسسي على الجسر الذي يربط بين اسرائيل والامارات العربية المتحدة"، وهذا يعكس رغبة قوية في مأسسة التعاون الاقتصادي وتثبيت قواعده، ويؤكد عمق توافق وتفاهم الجانبين بشأن الاهتمام بمجالات محددة بما يؤدي لاختيار المسؤولين القادرين على ترجمة هذه التفاهمات إلى واقع فعلي يستفيد منه البلدان والشعبان، الاماراتي والاسرائيلي.
والحقيقة أن ماتم في مجرى العلاقات الثنائية خلال الفترة التي اعقبت توقيع اتفاق السلام في سبتمبر الماضي، يشير إلى حاجة ملحة إلى مأسسة هذا التعاون وتأطيره بشكل منهجي بما يحقق اقصى عوائد ممكنة، فهناك اتفاقيات تعاون كثيرة وقعها الجانبان، وهناك تعهدات استثمارية ومذكرات تفاهم تحتاج إلى بناء خارطة طريق لتحويلها إلى اتفاقات ثنائية تترجم الالتزام القوي المعلن من الجانبين بشأن التركيز على الأبعاد الاقتصادية والعلمية والصناعية للعلاقات.
الاقتصاد الاماراتي القائم على الابتكار يحتاج دائماً إلى توسيع شبكات التعاون عالمياً في لتطوير اقتصاد المعرفة والاسراع بوتيرة التحول الرقمي والارتقاء بريادة الأعمال وقطاعات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الزراعية وحلول المصادر المائية، والمدن الذكية والطاقة المتجددة، والأمر لا يقتصر على التقنيات المتقدمة في هذه المجالات فحسب، بل هناك مصالح مشتركة في مجالات حيوية أخرى مثل الأعمال المصرفية والطاقة والسياحة والخدمات اللوجستية وغيرها من القطاعات ذات الصلة بخطط الامارات التنموية الطموحة وفي مقدمتها "مئوية الامارات 2071".
والاحصاءات تقول أنه خلال الفترة من سبتمبر 2020 حتى يناير 2021 وقعت اتفاقيات تجارية بين الامارات واسرائيل تقدر بنحو مليار درهم اماراتي (مليار شيكل) وهناك توقعات بأن يصل حجم التبادل التجاري بين الجانبين إلى 14 مليار درهم اماراتي (14 مليار شيكل) في غضون السنوات الخمس المقبلة، فضلاً عن توقعات ايجابية للغاية بأن تتحول الامارات إلى بوابة كبيرة لتدفق المنتجات والسلع الاسرائيلية إلى قارة آسيا وبقية الدول العربية التي ستتجه تدريجياً للتعاون مع اسرائيل والاستفادة من تقدمها في مجالات وقطاعات شتى، لاسيما إذا تحقق اختراق نوعي كبير باتجاه تسوية القضية الفلسطينية وانهاء هذا الصراع التاريخي بما يحقق الأمن والاستقرار والسلام للشعبين الفلسطيني والاسرائيلي، حيث يمكن أن يثمر مثل هذا الاختراق عن خارطة اقتصادية واستثمارية وجيوسياسية جديدة للشرق الأوسط.
ويذكرني هنا ماقاله وزير الخارجية الاسرائيلي يائير لابيد في مؤتمر صحفي اقيم داخل المبنى الذي يضم القنصلية الإسرائيلية في أحد المراكز المالية في دبي، حيث قال "سبب وجودي هنا هو أننا نريد توسيع الاتفاقيات، نريد توقيع المزيد من الاتفاقيات"، وأضاف: "في مرحلة ما، سيكون الهدف الانتقال من الحكومات، إلى الأعمال التجارية، ثم إلى الناس"، أي أن الهدف المشترك للامارات واسرائيل هو بناء سلام حقيقي مستدام بين الشعوب العربية واسرائيل، سلام تحصد الشعوب ثماره على صعيد التنمية والبناء والحياة اليومية، لذا فإن اتفاق التعاون الاقتصادي والتجاري الذي وقعه الجانبان خلال زيارة وزير الخارجية يائير لابيد للإمارات قد تحدث عن طموحات واعدة مستقبلا مثل "تبادل حر للسلع والخدمات" والتطلع لتوقيع اتفاقية للتجارة الحرة بدأت المناقشات حولها بالفعل.
العلاقات الاماراتية ـ الاسرائيلية هي بالفعل علاقات استثنائية تتمحور حول مصالح الدول ومستقبل الشعوب والأجيال المقبلة، وصولاً إلى بناء نموذج يحتذى به في نشر دبلوماسية التنمية والسلام الحقيقي المستدام في ربوع منطقة الشرق الأوسط بأكمله.
التعليقات