انتقادات دولية بل وأميركية كثيرة طالت إدارة الرئيس جو بايدن منذ أن شاهد مئات الملايين حول العالم لقطات تساقط مواطنين أفغان من طائرة أميركية اضطرت لمغادرة أرض مطار كابول وعلى متنها أكثر من 640 شخصاً يريدون الفرار عقب سيطرة حركة "طالبان" على العاصمة. معظم هذه الانتقادات تركز على "إدارة" مشهد الخروج الأميركي من أفغانستان، حيث أفسدت سرعة سيطرة حركة طالبان على العاصمة، كابول، خطط الجانب الأميركي للخروج بشكل منظم وفي توقيت معلوم (قبل حلول ذكرى الحادي عشر من سبتمبر) حيث كان يفترض أن يكون خروج آخر جندي أميركي مناسبة احتفالية من وجهة نظر البيت الأبيض، ولكن الأمور لم تمضي وفق ما خطط لها بل تحولت إلى أزمة حقيقية تواجه فريق الرئيس بايدن.
وجهة النظر الأميركية الرسمية تقول أن الولايات المتحدة لا تنفي علمها باحتمال سيطرة حركة "طالبان" على أفغانستان، بل تؤكد أن ذلك كان في قلب حساباتها، وأن الرئيس بايدن لا يريد وقف او تأجيل زحف الحركة على الأراضي الأفغانية، لأن ذلك كان سيتطلب إرسال قوات أميركية إضافية لأفغانستان، ولكنه سعى للتركيز على تحقيق أهداف الأمن القومي الأساسية للولايات المتحدة.
أما الواقع فيقول أن الولايات المتحدة قد فشلت في تقدير مستوى كفاءة الجيش الأفغاني ومهنيته، ويبدو أنها وقعت فريسة عملية خداع كبرى في هذا الشأن، ليس على صعيد أداء الجيش الأفغاني فقط، بل على صعيد أقرب حلفائها الأفغان، وهو الرئيس الهارب أشرف غني، الذي فر بسرعة لافتة وفي توقيت حساس للغاية، وبشكل لم يكن تتوقعه واشنطن التي اعتقدت أن سيطرة حركة "طالبان" على الحكم مسألة وقت وأنها ستواجه بعض المقاومة والقتال من جانب الجيش الأفغاني، ولكن هذا لم يحدث تماماً بل تحقق في توقيت يعكس فشلاً استخباراتيا ً أميركياً ذريعاً ويؤكد أن "طالبان" قد رتبت لكل شىء قبل حدوثه بدقة شديدة اعتماداً على إلمامها التام بالشأن الأفغاني وتجربتها السابقة في الحكم وساعدها بطبيعة الحال تفشي الفساد والرشى وتعدد الولاءات وربما غيابها في صفوف خصومها من القادة والمسؤولين الأفغان، وهو ما أشارت إليه صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية في تقرير لها تحدث عن رشاوى متها "طالبان" لمسؤولين وعسكريين أفغان منذ العام الماضي كي يسلموا اسلحتهم، وأن هذه "الصفقات" تمت في شكل اتفاقات لوقف إطلاق النار، وأن حركة طالبان نجحت خلال عام ونصف في توسيع هذا المخطط من المناطق السكنية إلى مستوى السلطات الإقليمية والمحافظات الإداري، وأن هذه الرشاوى أظهرت نتائجها في استسلام القوات الحكومية بشكل متسارع للغاية، ونقلت الصحيفة عن مسؤول استخباراتي أفغاني قوله أن "البعض أراد الحصول على المال"، لكن آخرين انحازوا لـ "طالبان" بعد توقيع اتفاق بين واشنطن والحركة في الدوحة، حيث تيقن الكثيرين بأن "طالبان ستعود لا محالة إلى السلطة وقرروا "تأمين مكان لهم في الجانب المنتصر".
الكل يعلم بمخطط الانسحاب الأميركي إذاً ولكن المعضلة التي تسببت في تشويه السياسة الخارجية الأميركية تكمن في سوء إدارة المشهد، حتي أصبح أسوأ فشل للسياسة الخارجية الأميركية منذ عقود كما يقول الكثير من الخبراء والمحللين، حيث أعاد مشهد الهروب الكبير من مطار كابول إلى الأذهان مشهد انسحاب القوات الأميركية من سايغون الفيتنامية عام 1975، مادفع قادة الحزب الجمهوري الأميركي للتساؤل عما إذا كانت إجهزة الاستخبارات الأميركية قد أساءت تقييم الوضع وأن الرئيس تم تضليله من قبل أجهزته أم أنه كان يعلم حقيقة ماسيحدث وقام بتضليل الشعب الأميركي؟ ولاشك أن أزمة بايدن داخلياً قد تتعمق بقوة لو صح ماورد بتقرير "نيويورك تايمز" الذى ذكر أن الاستخبارات الأميركية حذرت من "انهيار وشيك" للجيش الأفغاني، فيما شكك الرئيس جو بايدن ومستشاروه في إمكانية حدوث ذلك، حيث كشفت الصحيفة نقلاً عن مصادر لها أنه بحلول شهر يوليو الماضي ازدادت التقارير الاستخباراتية من أفغانستان "تشاؤما" بشأن قدرة قوات الأمن الأفغانية على التصدي لزحف "طالبان" وفرصة الحكومة في الحفاظ على سلطتها ومنع سقوط كابل، وذكرت الصحيفة أن الرئيس بايدن قلل في 8 يوليو من خطورة سقوط الحكومة الأفغانية، كما أنه استبعد أي "إجلاء فوضوي للأميركيين" من أفغانستان على غرار ما حدث في نهاية حرب فيتنام عام 1975، ومثل هذه المعلومات قد تضع البيت الأبيض في موقف حرج للغاية خلال الفترة المقبلة.
الرئيس بايدن يجادل منتقديه بأن خروج القوات الأميركية من أفغانستان كان في وقته المناسب، وهذا أمر لا خلاف بشأنه، وتحدث مؤخراً في كلمة له عن نقاط عدة لم تتطرق جميعها إلى تفسير سيناريو الخروج أو تبريره، بل تمحورت حول أسباب الخروج، التي هي بالأساس موضع اتفاق بين الديمقراطيين والجمهوريين، وقال إنه ليس هناك ندم على قرار سحب القوات، وأن الهدف من العملية الأميركية في أفغانستان كان منع الهجمات الإرهابية على دولتنا، وقد تحقق هدفها، وأنه لا يجب أن يموت الجيش الأميركي في حرب لا تريد القوات الأفغانية خوضها، مشيراً إلى استسلام قادة أفغانستان وهروبهم وانهيار الجيش الذي منحته الولايات المتحدة "كل مايحتاجه" لكنها فشلت في منحه إرادة الانتصار.
حديث بايدن يوحي بأنه في مأزق حقيقي لاقناع منتقديه الأميركي بعدم حدوث فشل في إخراج المشهد، وتنفيذ مخطط الانسحاب بشكل مناسب، ما يضعه في مرمى منافسيه وخصومه داخل الولايات المتحدة وخارجها، فالأمر لا يتعلق بالتكلفة الضخمة للتدخل العسكري الذي انتهى بهذا الشكل ولكن أيضاً بمقتل أكثر من 2300 جندي أميركي وإصابة أكثر من عشرين ألفاً في حرب استمرت عقدين من الزمن وانتهت بمشهد تساقط العالقين بالطائرة الأميركية على أرض مطار كابول، ولكن ما يطمئن البيت الأبيض نسبياً في هذا الشأن أن نتائج استطلاعات الرأي لا تزال تدعم قرار سحب القوات الأميركية بغض النظر عن الانتقادات التي رافقت هذا الخروج.
ولاشك أن تحليل المشهد بشكل موضوعي بعيداً عن الصراع الحزبي الأميركي، يقول أن الرئيس بايدن قد أخطأ في إخراج مشهد النهاية في أفغانستان، ولكن هذا الفشل يمتد لعقدين ماضيين، حيث لم تستطع الإدارات الأميركية السابقة تقييم مخرجات التدخل الأميركي في أفغانستان بناء على المصالح الاستراتيجية الأميركية، واختار الجميع التهرب من تحمل تبعات اتخاذ القرار حتى وصلت فاتورة هذا التدخل إلى نحو 3 تريليونات دولار بحسب تقارير اميركية، والأمر هنا لا يتعلق بأفغانستان فقط بل يطال مكانة الولايات المتحدة وهيبتها في النظام العالمي القائم، فتكرار مثل هذه المواقف في أفغانستان والعراق ومناطق أخرى من العالم يعتبره البعض مؤشر على تآكل النفوذ العالمي الأميركي وانحسار قدرة الولايات المتحدة على البقاء كقوة عظمى وحيدة تهيمن على العالم.
الحقيقة أن مثل هذا الكلام لم يعد افتراضات تحليلية، فهناك شواهد يجب أخذها بالاعتبار وفي مقدمتها اهتزاز ثقة حلفاء الولايات المتحدة في قدراتها العملياتية والاستخباراتية والعسكرية، فعندما يقول فولفجانج إيشينجر رئيس مؤتمر ميونيخ الدولي للامن، الذي يعد أحد أكبر وأهم المؤتمرات الدولية التي تناقش السياسة الأمنية على مستوى العالم، أن الوضع في أفغانستان يدل على فشل تام لأجهزة الاستخبارات الأميركية، ويضيف "كنا واثقين أشد الثقة بأن هناك في أفغانستان قوات مسلحة ومدربة جيدا، وقبل أيام فقط كانت تصل لي تقارير من الأميركيين تؤكد أن في مقدور هذه القوات الدفاع عن كابل على مدار أشهر"، ويتابع "لقد انهار كل ذلك مثل بيت من ورق، وهذا يدل على فشل تام وهزيمة تامة في تقديرات الوضع العسكري، وأعتقد أنها تقديرات استخباراتية أميركية، وهذا يعكس مدى اهتزاز الثقة بقدرات الولايات المتحدة من جانب حلفائها.
المسألة باعتقادي تتجاوز حدوث أخطاء من جانب إدارة الرئيس بايدن أو حدوث فشل استخباراتي في تقدير الموقف، ولكنها ستكون موضع دراسات وتساؤلات أميركية عميقة خلال الفترة المقبلة لأن ماحدث يعد أخطر إنذار بانحسار وتآكل النفوذ الأميركي عالمياً.