بات من الواضح ان واشنطن لم تحسن من البداية رسم مستقبل مطار كابول، وان تركيزه كان منصب قبل الانسحاب في شيء واحد فقط، وهو كيفية زرع قنبلة جديدة في افغانستان للانفجار في وجه روسيا والصين مستقبلا.
فقبل الإنسحاب اتفقت واشنطن مع طالبان على ما بعد الإنسحاب، كي تتولى طالبان (المحظورة في روسيا) زمام الأمور في ارض الذكريات السيئة للسوفييت، وهي تعلم ان الحرب الأهلية في افغانستان قادمة لا محال ان لم تتطور الأمور خارج حدود افغانستان، لذلك صرح بوتين بداية الشهر الجاري، قائلا: "ان ما يحدث في افغانستان سيكون له تأثير سلبي على الجوار الافغاني"، وهو ما يعني ان الروس سيتدخلوا مجبرين لدعم أي فصيل أفغاني مناهض لطالبان، كي يعود على أثره الروس من جديد لجبال أفغانستان.
ولكن من المؤكد في حال عودة الروس مجددا لأفغانستان، فتلك المرة ستكون مختلفة تماما عن المرة الأولى، خاصة وان روسيا اليوم لها ذراع خارجي مماثل لـ "بلاك ووتر" الامريكي، إلا وهو "الفاجنر"، ولا نستبعد ان تنسحب عناصر الفاجنر من ليبيا الى افغانستان، خاصة بعد ما جاء في توصيات اجتماع وزراء خارجية دول الجوار الليبي في الجزائر (حليف روسيا) بخروج كافة المسلحين الأجانب من كامل ليبيا، وهو ما كان يتم إلا بتوافق مسبق روسي جزائري.
وأيضا من الصعب فرضية ان يكون توقيت ذلك الاجتماع كان صدفة، وهو ما جاء قبل إقتتال شرس بين المليشيات الإرهابية في العاصمة طرابلس، والتي كانت تركيا ضالعة فيه بشكل أساسي، ويكفي أن محمود حمزة امر اللواء444 (المشارك في الإقتتال الداخلي بمنطقة صلاح الدين جنوب طرابلس، والذي تم إعتماده من قبل فايز السراج)، كان في تركيا خلال تلك المعارك الداخلية التي زعزعت الامن في جنوب طرابلس، وهو ما يؤكد لنا أن المعادلة في افغانستان وليبيا وما بينهم واحدة، ما دام الأطراف المشتبكة هناك هي نفسها المشتبكة هنا.
فالحرب في افغانستان أو حتى ليبيا وما بينهم لم تنتهي بعد، ونترقب كيف ستكون الأمور بين موسكو وبكين في ظل تناقض متوقع تجاه تعامل كلاهما مع طالبان، فالصين كعاداتها وضعت المصلحة الاقتصادية فوق أي إعتبار، لذلك طمأنت طالبان بكين على أن افغانستان لن تكون عائق أمام مشروع "الحزام والطريق" بينما المخاوف الأمنية تجاه ما يحدث في افغانستان تسيطر على العقل الإستراتيجي الروسي بشكل كبير جدا، وهي لها كل الحق في ذلك التخوف، بعد أن وصل الدعم الباكستاني التركي القطري لحركة طالبان الى ذروته، وكل ذلك بضوء أخضر أمريكي، وبعد ان صار موقف احمد شاه مسعود متأزم جدا أمام طالبان بفعل الدعم الإستخباراتي والعسكري الباكستاني لطالبان، بعد زيارة فايز حميد مدير المخابرات الباكستانية الى كابول ولقائه بقادة طالبان بداية الأسبوع الماضي، وهنا لا يفوتنا دور الطائرات المسيرة الباكستانية في مساعدة عناصر طالبان للتسلل لبانجشير، فأن تم القضاء على بانجشير لن يكون هناك أي فرصة للتواجد الروسي في افغانستان، كي تنتقل روسيا في تعاملها مع القنبلة المرتقبة في أفغانستان الى الخطة "ب".
وبالتزامن مما كان يدور بين الأقطاب الدولية والقوى الإقليمية في أسيا الوسطى على رقعة أفغانستان، كذلك كانت هناك صفقة جديدة تدور في سوريا بالأونة الأخيرة بين موسكو وأنقرة، على أن تترك تركيا أمر "فيلق الشام" ومحافظة درعا تماما لموسكو ودمشق، مقابل غض بصرهم عما يفعله اردوغان بالأكراد شمالا، وربما نرى مشهد مماثل في ليبيا قريبا.
ومن ليبيا (شمال افريقيا) الى غينيا (غرب أفريقيا)، دخلت كل من موسكو وباريس جولة جديدة في الصراع بينهم بالقارة السمراء، بعد أن وجهت فرنسا الأسبوع الماضي صفعة ثانية لروسيا بعزل الرئيس الغيني ألفا كوندي، على يد ظباط وعناصر من الجيش الغيني على علاقة مباشرة بالمخابرات الفرنسية، وهي صفعة فرنسية جديدة لروسيا، بعد تصفية ادريس ديبي رئيس تشاد في ابريل الماضي، والذي انحاز في عقد صفقاته العسكرية الجديدة لروسيا على حساب فرنسا، بعد ان سلم الجزائر خرائط كل تحركات القوات الفرنسية في مالي، كي تبقى المخابرات الفرنسية في المقعد الأول بالقارة السمراء.
فكما صارت مياه شرق المتوسط ساخنة كحال مياه الخليج بفعل إكتشافات الغاز، وكما صارت أفغانستان ملتهبة كحال الشام بفعل داعش خراسان، كذلك صار غرب افريقيا مشتعل كحال الشرق الأوسط بفعل الصراع الدولي على أراضي اليورانيوم والماس والذهب، وصار من المؤكد ان جغرافية المعركة بين الأقطاب الدولية والتي اتسعت من أفغانستان شرقا الى غينيا غربا ستشهد المزيد من حروب تكسير العظام.
وحقيقة الأمر ان دول الساحل والصحراء وغرب افريقيا صارت مؤهلة لإستقبال ذلك الصراع، ويكفي ان تنظروا لكم عناصر الإستخبارات الاجنبية والشركات الدولية والعابرة للقارات التي دخلت لتلك الدول بالشهور القليلة الماضية فقط.
التعليقات