عندما تغيب المبادئ والقيم الأخلاقية، يصبح الممنوع مسموحا والمحظور مباحا، وتصبح العلاقات الإنسانية تحكمها المصالح الشخصية، وسيطرة القوى ذات النفوذ في المجتمع. لقد تفشت في السنوات الأخيرة ظاهرة اجتماعية خطيرة في أغلب البلدان العربية، وهي ظاهرة الواسطة أو المحسوبية، حيث يعتمد البعض على نفوذ الأقرباء أو المعارف للحصول على الوظائف والأعمال وقضاء المصالح الشخصية وسواها. وغالبا ما يكون هؤلاء الأشخاص المعتمدون على الواسطة أقل علما وكفاءة من أقرانهم الذين ليس بوسعهم الحصول على من يتوسط لهم.

وتعرف الواسطة على أنها: "تدخل شخص ما، يملك سلطة التزكية أو اتخاذ القرار لدى جهة ما، لتسهيل مهمة أو قضاء حاجة لشخص قريب أو صديق عن طريق الوسيط الذي يمتلك سلطة مادية أو معنوية أو وظيفية". وفي بعض البلدان تعرف بإسم المحسوبية، ولكن اختلاف المسميات لا يغير من الحقيقة شيئا، وهي أن الواسطة تعني حصول شخص ما على وظيفة هو غير كفؤ لها، أو خدمة لا يستحقها عن طريق شخص آخر متنفذ، مهدرا بذلك مبدأ تكافؤ الفرص بما يلحق الضرر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالآخرين.

وتعتبر الواسطة اغتصابا فعليا لحقوق الآخرين الذين لا يرتبطون بصلات قرابة مع المتنفذين تمكنهم من الحصول على حقوقهم المسلوبة ولو كانوا أحق من هؤلاء الذين سلبوها منهم عن طريق الوساطة. وهي، أي الواسطة، طاعون اجتماعي يعمل على تهميش أصحاب الكفاءات والقدرات، كما أن هذه الظاهرة الوبائية تجعل الشخص المتميز والمتفوق يصاب بالإحباط وخيبة الأمل.

ومع أن الأديان السماوية والقيم الإنسانية الخيرة يؤكدان أن الناس متساوون في الحقوق والواجبات، إلا أن آفة الواسطة تنسف مبدأ المساواة وتهدر إمكانات الموهوبين والمتميزين، وتحرمهم من تحقيق أحلامهم لعدم وجود صاحب نفوذ يتوسط لهم. وهكذا يغيب وينسف مبدأ إنساني أقرته جميع الأديان السماوية والأعراف البشرية وهو "مبدأ تكافؤ الفرص"، فيصبح الإحباط ظاهرة عامة قاتلة للتقدم والتنمية. وعلى المستوى الاجتماعي، تؤدي الواسطة إلى تدمير عملية التفاعل الاجتماعي، وفقد الثقة والشعور بخيبة الأمل، وبالتالي زيادة مشاعر الحقد والعداء والغيرة والكراهية بين أبناء المجتمع الواحد.

تعتبر الواسطة معول هدم في بناء المجتمع، وهي من أخطر ما يهدد استقراره وتقدمه ونموه، فهي تنسف مبدأ العدالة والمساواة، وتقسم المجتمع إلى كتلتين: أقلية تحصل على كل شيء، واغلبية لا تحصل إلا على القليل. كما أن الواسطة من الأسباب الرئيسية لتدني مستوى الخدمات والأداء في أغلب المؤسسات العربية في القطاعين العام والخاص، وهجرة العقول العلمية والكفاءات العربية إلى الخارج. ولا يمكن القضاء على هذه الآفة الخطرة والمدمرة إلا بسن القوانين التي تجرم استغلال النفوذ والتمييز بين المواطنين.

قال تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا. الواسطة لشخص غير كفؤ على حساب الأشخاص الأكفاء هي شفاعة سيئة يمقت الله صاحبها.