فى المجتمعات المتحضرة لم تعد قضية العيش المشترك محل نقاش او جدل أو خلاف بل لم يعد لها ذكر، فهى بديهية ومحسومة ومستقرة ومقبولة من الجميع عن اقتناع تام ـ وليس على مضض ـ، هذا عن مجتمعات حسمت أمرها وانطلقت الى المستقبل. أما فى المجتمعات المتخلفة فلا زال منطق البئر والكلأ هو السائد المسيطر على العقول والقلوب ايضا، فلا موضع أو فرصة أو فسحة لتعديل منطق اما نحن واما هم منطق اما طردهم واما قتلهم ولا حلول وسطى تبدو فى الافق تقترح كحد أدنى حتى مبدأ التعايش أو بالأحرى العيش معا متنمرين بعضا على بعض، والتعايش هو تعبير مراوغ كتعبير التسامح الذى معناه السماحة المؤقته المشروطة.

ونظره على المشهد الدامى فى هذه البقعة من العالم لا يحتاج لكثير من الفطنة لمعرفة ما يجرى فى هذه المجتمعات فقضايا الدم والقتل والموت هى المحاور الرئيسة المستدامة لأسلوب الحياه ــ اذا جاز أن نسميها حياه ــ أما ما عدا ذلك فتلك ثانويات فرعية فالموت الجاثم على الصدور فى هذه المجتمعات الموتورة يجعل من أى نشاط انسانى قضايا مؤجلة.

وبالطبع هذا الملف ملف تجهيز القضايا الدموية يدار من خلف الكواليس بالتنسيق مع حكومات ظل يتبادلون الادوارمعا بخطة مرسومة بعناية للسيطرة على مشاعر الرعاع وتجييشهم عندما يعلن النفيرالعام ليهبوا على قلب رجل واحد لاسالة أكبر قدر من الدماء بعد ابتداع قضايا دموية مقدسة وعلى رأسها بالطبع الدفاع عن الدين وخالق الدين ورسول الدين وكتاب الدين، وبينما ننقر حروف هذا الطرح تطالعنا مشاهد مرعبة تنتشر على الميديا فقد قتلوا انسانا وأحرقوا جثته (ورواية أخرى تقول أنهم أحرقوه حيا) لمجرد انه نزع ملصق عليه اسم النبى محمد من على جدار مصنع فى باكستان حفاظا على نظافة جدار المصنع الذى يديره الضحية منذ عشر سنوات، أى أن الضحية يعايش من أحرقوه منذ عقد من الزمن لكنه يعايشهم بمبدأ التعايش أى العيش على مضض فى انتظار شبهة الخطأ الأول الذى يترصدوه وقد رصدوه وقتلوه ومثلوا بجثته ثم أحرقوها، وهذا مثال مبسط للقضايا الدموية التى يصنعها محترفون، وهى القضايا التى يتحتم أن يكون نتاجها النهائى دماء، وهم لوبى متمكن ومسيطر على مشاعر الملايين من الجهلة وأنصاف المتعلمين، وأى محاولة لتعديل مسار هذه المجتمعات نحو المدنية والحداثة والعيش والسماحة هى بدع وضلالات محكوم عليها بالفشل لانها تمثل خطورة بالغه على فرق المنتفعين من جهل هذه القطعان المسلوبة ارادتهم والتى يسوقونهم بسوط الارادة الالهية الذى يلهب ظهورهم، فكلما عن لأحدهم أن يفكر أو يتسائل أو يعمل عقله وأن يبتعد ولو قليلا عن القطيع جاءت فرقعة السوط تصم أذنه فيفيق ويعود الى مكانه خانعا ذليلا.

والقضية الدموية الجديدة المثارة على الساحة الان هى لقس مصرى يعيش فى أمريكا، وهو معزول من عقود من سلك الاكليروس بسبب خلاف عقائدى مع كنيستة، ومن ثم احترف العمل مع قنوات دينية مسيحية أنشأت ردا على القنوات الاسلامية التى انتشرت منذ الثمانينات، وسلك الرجل هذا المسلك المعيب وأنا شخصيا لا أشاهد مثل هذه الترهات وأعتقد جازما أن معظم المسيحيين فى مصر لا يشاهدونه اللهم الا فى حالة الازمات الطائفية، فربما يكون مشاهدته متنفسا لغضب أو شعور بالظلم وخصوصا تلك الازمات التى يصنعها متطرفو التيارات الراديكالية مثل الاعتداء على الاقباط والكنائس وخطف القاصرات وغيرها كثير، وهذا القس منذ ربع قرن يقتطف أجزاء من كتب رواة الاحاديث وخصوصا الرواة الكبار منهم وبالطبع هى مقتطفات مثيرة للجدل ويعلق عليها هو وآخرون، المهم أن أحدا لم يعره انتباها طيلة هذه المده الى أن اختاره صناع القضايا الدموية فى مصر ليكون القضية المقدسة الآنية والتى يجب أن تسيل فيها الدماء، وليس شرطا أن تكون دماء القس المهم أى دماء وبكمية كافيه فالمتعطشون للغى الدماء كثر فالملصقات (الا رسول الله) والترندات التى تدعو الى القتل تتركز فى مصر بكثافة دونا عن بقية الاقطار الاسلامية وبالطبع لن يستطيعوا الوصول للرجل فى أمريكا فلا بأس من الانتقام لاهانة الرسول من مصريين فتفجير كنيسة أو قتل رجل دين مسيحى ربما يشفى غليل الصدور.

وتعجبت كثيرا عندما راجعت آخر ما قاله القس المعزول فى هذا الصدد فهو يدعى بأن ما يقوله مدون ومكتوب فى كتب السيرة، ولا يكتفى بذلك بل يعرض عناوين الكتب وتاريخ ومكان طباعتها وصور أغلفتها وأرقام الصفحات التى ورد فيها ما يقوله، ورأيى أن الاجدى بديلا عن القتل والدم هو تنقيح وتنقية كل ما يرد فى كتب السيرة والاحاديث من هذه الترهات الصادمة للعقل والمتصادمة مع الفطرة الانسانية.