يَخُصّ الله بعض عباده بالنعم إكرامًا لهم، أو اختبارا، أو استدراجا، فاحذر أن تواجه الإكرام باللؤم، وإياك أن تخفق في الاختبار، أو تستسلم للابتلاء.

وإن أعظمَ مُنَغِّصاتِ النِّعَمِ ومُذْهِبَاتِها أن تعتقد أنها جاءتك لأنك أهل لها، أو لأنك بذلت في تحصيلها جهدك.

أبدا أبدا.. كثيرون يبذلون أضعاف ما تبذل، ولا يملكون معشار ما تملك، وكثيرون يبذلون أقل مما تبذل، ويملكون أضعاف ما تملك.. الأرزاق الإلهية معادلةسماوية تستعصي على حسابات البشر.. إنها أسرار عُلْوِيّة لا يمكن أن نحيط بها علما، أو نعرف كنه تفاصيلها.

الذي نعرفه جيدًا أن النِّعَم لها مُنْعِم، وهو الله سبحانه، وحين ينعم علينا يجب علينا شكره شكرًا يليق به، ويجدر بنا أيضًا أن نُشرِك الآخرين معنا في هذهالنعم، فنعطي المساكين، ونحسن لمستحق الإحسان، فبهذا نؤدي بعض ما علينا، ونطفئ شعلة الغرور التي يضرمها في صدورنا الشيطان الرجيم.

لا شيء يفتح عليك أبواب السخط والدمار كأن تجحد المنعم، هذا الجحود هو العقوبة المُعَجَّلة التي تؤكدها تجارب الحياة.

قبل آلاف السنين قال فرعون علوًا واستكبارًا: {أليس لي مُلْكُ مِصرَ وهذه الأنهارُ تَجري مِن تحتي}، فماذا حدث؟!

لقد جعله الله عِبرة للأمم، وأجرى الأنهار من فوقه، وقال قارون تكبرًا واستعلاءً: {إنما أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي}، فجاءه الرد العاجل: {فخَسَفْنا به وبداره الأرض}.

هكذا جرت العادة، وهكذا هو حال المتكبرين في الأرض منذ بدء الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،

إنهم في حُجُبٍ عن ضعفهم وهوانهم وحاجتهم للمنْعِم، وعِوَضًا عن شكر الواهب يكفرون بنعمه، ويجحدون فضله، وينسبونه لأنفسهم، وهم أكثر الناس معرفةًبعجزهم، لكنه الكِبْر الذي امتلأت به قلوبهم، وانتفخت به أوداجهم.

الكِبْر آفة الإنسان، ومقبرة النِّعَم، منه كانت المعصية الأولى لله سبحانه جل في علاه حين تكبر الشيطان الرجيم عن السجود لآدم، فقال: {أنا خيرٌ منه}، فعاقبهالله بأن أبقى آدم في الجنة، وأخرج منه هذا المتغطرس مصحوباً بلعنة أبدية تمحقه هو والذين ساروا على نهجه.

يعرف المجرِّبون أن للكِبْر أيادي سوداء تلوِّث القلوب، وتملؤها حسدًا وقبحا، حتى يجعلها كالكُوز مُجَخِّيًا تشمئز منه النفوس، ولا يُرجَى منه نفع.

النِّعَم هي عطايا الله يغدقها علينا، ويكرمنا بها، لنقوى بها على ضعفنا، ونتقوى بها على طاعته، ونصل بها أرحامنا وأحبابنا، ونتلمس حاجات أحبابه منمساكين ومنكسرين ومستحقين، ويرى أَنَشكُر له فيزيدنا، أم نُقَصِّر فيَصرِف نِعَمَه إلى الشاكرين المحسنين.

لم يرزقنا الله نعمةً استحقاقًا لنا ولا امتيازًا، بل هو فضله يؤتيه من يشاء، والفضل يستوجب شكر المنعم، والعمل بما يرتضيه من قولٍ وعمل.

رأيت الخطايا كلها، ولم أرَ خطيئةً أبشع من الكِبْر.. بشاعته منه وفيه، وكأن المتكبر ذاك اللئيم الذي أحسنتَ إليه فجازاك ليس بالجحود فحسب، بل جازاكبالإساءات تِلْوَ الإساءات، ونازعك ما في يديك، ورأى أنه أحق منك بكل شيء، وأنك ما أحسنتَ إليه بدءاً إلا لعلو قَدْرِه وهوان قَدْرِك!

الكِبْر هو الخطيئة التي سَبَقَت الشرك والكفر، وفتحت الباب لهما، فكيف لا يكون طريق هلاك؟!

ما أفلح متكبر قط ولو بدا وافر النِّعَم حينًا من الدهر؛ إذ سرعان ما تعدو عليه العوادي، ويعود صِفْر الأيادي، كأن لم يَغْنَ بالأمس،

ولله الشاعر إذ يقول:


اخفِضْ جَناحَكَ لِلأَنامِ تَفُزْ بِهِمْ

إنّ التواضُعَ شِيمَةُ الحُكَماءِ

لَو أُعجِبَ القَمَرُ المُنيرُ بِنَفسِهِ

لَرَأَيتَهُ يَهْوي إلى الغَبْراءِ


من أنت يا ابن آدم وأنت ترى نفسك أحق بالنعمة من سواك؟!

تراها حقّاً واجبًا لك،ومُحَرَّمة على غيرك،وترى أنك تحصلت عليها باقتدارك، وأن غيرك تحصل عليها بضربة حظ؟!

من أنت حتى تُقَسِّم أقدار الناس وأرزاقهم على هواك المعتل،ومزاجك المختل؟!

من أنت والمنعم يعطيك لتشكر، ثم تستكبر على عباده وتجحد؟!

من أنت والواهب يتفضل عليك بنِعمِه،ثم تخون نعماءه بمعاصيك؟

من أنت والرازق يمد لك العطايا،وأنت تعيش في غيّك عيشة العابثين؟

حنانيك يا ابن آدم،فهذه الدنيا لم تدم لغيرك حتى تظنها تدوم لك،ولو دامت لأحد لدامت للجبابرة الذين ملكوا أطراف الأرض،ثم ابتلعتْهم الأرض،وأكلهم الدودبين اللحود!

ما عُمرك يا ابن آدم في دنيا ولو طال إلا لمحة خيال، وما أنت في هذه اللمحة إلا ورقة خريف تذروها الرياح، فأفق، واعرف قَدْر نفسك يا مسكين.

تواضع لله مولاك، وتودد لأحبابه بما أولاك، وكلما تسلل إليك كِبْر أو طمع تذكر قوله تعالى لسيد البشر ﷺ وهو من هو: {ولا تَمُدَّنَّ عينيكَ إلى ما مَتَّعْنَا به أزواجًامنهم زهرةَ الحياةِ الدنيا لِنَفتِنَهم فيه ورزقُ ربِّكَ خيرٌ وأبقَى}.

وتذكر أيضًا قول الشاعر:


مَلْأَى السنابلِ تنحني بتواضُعٍ

والفارغاتُ رؤوسُهُنَّ شَوامِخُ


ولا تنس قول الآخر:


عَجَبًا من مُعجَبٍ بصورتِهِ

وكان مِن قبلُ نُطفةً مَذِرَةْ

وفي غدٍ بعدَ حُسنِ صُورتِهِ

يَصيرُ في الأرضِ جِيفَةً قَذِرَةْ

عش نعيم الحياة في نِعَم الله شاكرًا ذاكرًا مُحْسِنا، وكلما رزقك المنعمُ رزقًا عَفِّرْ جبينَك بالسجود، وقل لمُوجِد الوجود:

اللهم قلبًا مفتقرًا إليك، غنيًّا بك، خاضعًا لك.