من منظور بعض الخبراء الغربيين، وهم قلة، صارت المخاطر الاجتماعية الآن، تشمل بُعدًا بيئيًا مهمًا، ويحق للمواطنين أن يطالبوا حكوماتهم، بتطوير وسائل جديدة لحمايتهم من صدماتها. ففي مواجهة الزيادة، في كل التكاليف المادية والمعنوية المرتبطة، بآثار تغير المناخ وكوارث الأوبئة الغير المتوقعة، وانعدام التأمين الخاص لتغطية هذه المخاطر (ولو جزئيًا)، وما ينتج عن ذلك من زيادة في تفاوتات الضريبة - الاجتماعية، فإن الأمر متروك لها أيضًا، للتفكير في بناء دولة إجتماعية - بيئية (عوض الاكتفاء بدور دولة الرعاية الكلاسيكية) التي ستسمح، مستقبلا، بتجميع هذه التكاليف لتقليلها، وتقسيمها بشكل أكثر إنصافًا، عند التغطية و الدفع.
ولكن هناك أيضًا أزمة أعمق، وهي أزمة النظام الاقتصادي غير المستدام بيئيًا، والذي سيدفع الدول الغربية، للاهتمام بالنظم البيئية، من أجل ايجاد حل ملائم دون التفريط في كليهما، الاقتصاد والبيئة.
فرغم أن الأبحاث، حول الصلة بين الصحة والبيئة، كانت مستمرة منذ عقود، رسخ السؤال المقلق، لماذا لا يتم أخذها في الاعتبار بشكل كاف، في السياسات العامة؟
طيلة القرن الماضي، انبهرت الحكومات العالمية بأسطورة "التقدم"، وهاجس النمو من أجل النمو؛ بحيث كان ينافس النمو الاقتصادي التقدم الاجتماعي، وبدت المسألة البيئية ضعيفة الحضور في التدابير.
فهل فعلا، بعد أزمة وباء كوفيد19، دخل العالم بشكل لا رجعة فيه، إلى منطق تدبيري جديد، حيث يجب أن يتولى فيه، تحالف بين الصحة الاجتماعية والاستدامة البيئية، واجهة القرارات الكبرى، أم أن هيمنة الخطاب الاقتصادي الليبيرالي الدوغمائي، حاليا، هو العقبة أمام أي تحول بيئي - إجتماعي صحي.
فلا ننسى، ان هيمنة هذا الخطاب على آراء الساسة، هو الذي دفعهم في فترة التعافي، بالقول: علينا أولاً إنقاذ الوظائف وسير الأعمال، و سنترك قضية التحول البيئي وتغير المناخ، إلى ما بعد لانها مكلفة للغاية، وما إلى ذلك من الأقاويل الغير مسؤولة.
ومع ذلك، يعلمون جيدا، ان تأخير مشاكل البيئة، هو تقدير سخيف، لأن مستقبلا، مكافحة تغير المناخ والحفاظ على النظم البيئية، في غضون العقود القادمة، ستكلف آلاف المرات، مما هي عليه الآن، وهذه الأزمات لن تختفي مادام أصحاب القرار، قرروا أن لا يأخذوها على محمل الجد. ثم إن التكلفة، ستكون كارثة بيئية بشكل مروّع، ولن تزداد تكلفتها إلا مع تفاقم اللامبالاة والمراوغة.
كثير من عقلاء الاقتصاد القدامى، فهموا تمامًا أهمية النظم البيئية في النظم الاقتصادية. اليوم، أضحى الاقتصاديون الليبراليون مسجونون في أبراجهم الافتراضية، فهم يرسمون بيانات لعالم خيالي من الاقتصادات غير المادية، حيث تشكل البيئة مخزون خام لزيادة النمو الاقتصادي، لا غير.
و من جهة نظر أخرى، يمكننا أن نرى بوضوح عبثية ما يسمى بالمقايضة بين الصحة والاقتصاد (التي حملها فحوى ذلك الخطاب الاقتصادي الذي هيمن مع تراجع الوباء) لأن البلدان التي عانت من أكبر الخسائر البشرية، كانت هي نفسها التي عانت من اكبر الخسائر الاقتصادية، فتعاطيها بداية مع الأزمة الصحية، كموقف، كان أقرب للإهمال وللذعر بدلاً من التخطيط الموجه. فإذن و بدون شك، أفضل سياسة اقتصادية هي سياسة صحية جيدة، وأفضل سياسة صحية، هي سياسة بيئية جيدة.
أما الدرس، الذي يمكن استخلاصه من أزمة هذا الوباء، في تماسه مع خطي الصحة والبيئة، أنه ينذرنا فعلا، إذا لم نأخذ قضية صحة الإنسان وارتباطها بالنظم البيئية، على محمل الجد، فسوف ندمر نمط هذا الاقتصاد الليبيرالي بعينه، المعتد به كثيرا، في أجندات أندية الكبار.
التعليقات