عندما اندلعت الثورة الفرنسية كان عمر "هيغل" لا يتجاوز التاسعة عشرة عاما، وكان لها تأثير كبير عليه وعلى رفاقه في كلية اللاهوت بجامعة توبنجين. وكانت الثورة حدثا فريدا من نوعه، وقد أدى إلى تغيير وجه أوروبا وليس فرنسا فقط. فقد كتب عنها يقول بأسلوبه الفلسفي الذي يتجاوز الشعر: "كانت إشراقة رائعة للشمس. كل العقول المفكرة رحبت بها، ورانت على الجميع أحاسيس بهيجة في ذلك الزمان. وراحت حماسة الروح تجعل العالم يرتعد قشعريرة. يحصل ذلك كما لو أننا في تلك اللحظة بالذات توصلنا إلى المصالحة الحقيقية بين الله والعالم".

في كتابه الشهير "فينومينولوجيا الروح"، والمقصود بالروح هنا "العقل" أو الفكر البشري وكيف يتجلى عبر العصور منذ أقدمها وحتى اليوم، الذي كتبه وهو لم يتجاوز عمره 37 عاما. استطاع "هيغل" أن يتجاوز "كانط" "وفيخته" عن طريق الأخذ بعين الاعتبار لبعد أساسي من أبعاد الفكر هو: العدم. لكأنه أراد أن يقول للجميع: ينبغي ان نأخذ مسألة العدم بعين الاعتبار. فالطبيعة بجوهرها عدم، ولكن هذا العدم بحد ذاته شيء كبير. إن العامل العدمي ينخر احشاء الطبيعة أو الكينونة وينقض ما هو راسخا. من هنا اكتشاف "هيغل" للديالكتيك أو بالأحرى للحظته الثانية: لحظة النقض، نقض الأطروحة. فالجدل الهيغلي مؤلف من ثلاث لحظات: لحظة الأطروحة، ونقض الأطروحة، والتركيبة التي تجمع بينهما وتتجاوزهما لكي تشكل أطروحة جديدة تنقض بدورها لاحقا، وهكذا دواليك".

ونفهم من كلامه أنه عانى طويلا قبل أن ينتقل من اللاهوت إلى الفلسفة. فقد درس في كلية اللاهوت البروتستانتي في البداية وكان موجها لأن يصبح كاهنا أو قسيسا بعد تخرجه. ولكن تأثير "كانط" "وجان جاك روسو" وكل فلاسفة التنوير عليه جعله يغير مشروعه كما حصل لزميليه الآخرين "شيلنغ" "وهولدرلين". عندما درس "هيغل" "كانط" كان يهتم أولا بكتابه الصادر عن المسألة اللاهوتية والذي يحمل العنوان التالي: "الدين مفهوما ضمن حدود العقل فقط"، وفي هذا الكتاب يقوم "كانط" بتفحص عميق لمفهوم الدين المسيحي منظورا إليه من خلال الفلسفة النقدية والتنويرية، "أي فلسفته هو بالذات". وقد فهم "هيغل" فورا أن هذا الكتاب يفتح آفاقا واسعة على العصر الكوني المقبل والجديد بالنسبة للبشرية الأوروبية.

ولأن "هيغل" كان نهما للمعرفة ومستعدا لأن يخاطر بنفسه من أجل أن يفهم شيئا ما، عندئذ انخرط في دراسات جريئة عن الدين، وألف كتابا عن حياة يسوع المسيح، وكتبا أخرى، ولكنه لم يتجرأ على نشرها وإنما بقيت مخطوطات في أدراجه طوال حياته كلها. وعلى الرغم من أنه لم يتخلى عن التلوين الديني لكتاباته فقد اعتمد وجهة نظر سوسيولوجية، أو على الأقل تاريخية لكي يتفحص الشروط الموضوعية لتجديد المسيحية. وكان هدفه الأخير هو التوصل إلى مسيحية معدلة بعمق، ومستعادة في براءتها الأصلية، ومخلصة تراكمات الزمن وشوائب القرون. كان يريد التوصل إلى صيغة جديدة للدين، صيغة قادرة على أن تدعم الدولة، وتشجع العاطفة المدنية والوطنية، وتلهم الأخلاق الاجتماعية للأفراد.

في الواقع إن مثالية "هيغل" كانت عالية ورائعة، ولهذا السبب كان تلامذته يستمعون إليه بكل خشوع في جامعات "يينا" أو "هايدلبرغ" أو "برلين". وعندما ألقى درسه الافتتاحي عام 1818م في جامعة برلين هز الصالة هزا وارتفع بالحضور إلى مستويات عليا. يقول معرفا الفلسفة: "إن التصميم على التفلسف يلقي بنفسه في أحضان الفكر المحض، هناك حيث يكون الفكر وحيدا مع ذاته. إنه يلقي بنفسه في بحر لا ضفاف له. كل الألوان المبرقشة، وكل نقاط الدعم اختفت. كل الأضواء التي تكون ودودة عادة انطفأت، ولم تبقى إلا نجمة واحدة مشعة: إنها النجمة الداخلية للروح، إنها النجمة القطبية. ولكن من الطبيعي أن تشعر الروح المتوحدة مع ذاتها بقشعريرة الرعب، وذلك لأن الروح عندما تتنطح للتفلسف لا تعرف إلى أين تصل، ولا في أي اتجاه تذهب. هذه هي الفلسفة، إنها حالة من التردد، من انعدام الأمان، من ترنح كل شيء.

ولد "هيغل" في 27 أغسطس 1770م وتوفي في 14 نوفمبر 1831م حيث أصيب بوباء الكوليرا، عن عمر ناهز 61 عاما.

يقول المفكر والكاتب "هاشم صالح": إن نزع الطابع التاريخي الحي عن الفكر الفلسفي أساء كثيرا لصورة الفلسفة في العالم العربي، وجعلها تبدو وكأنها شيء يستغلق على الفهم أو ينبغي أن يستغلق بالضرورة. فلكي تكون فيلسوفا حقيقيا ينبغي ان تقول كلاما غامضا وعموميا لا يفهمه أحد. وكلما زاد غموض كلامك أصبحت فيلسوفا أكبر من سواك. هذه الصورة عن الفلسفة ينبغي أن تنتهي ليس فقط لأنها تعرقل مسيرة الفكر العربي، وإنما لأنها ليست صحيحة بكل بساطة. فالفيلسوف كائن من لحم ودم، وكل مصطلحاته وأفكاره التي تبدو تجريدية للوهلة الأولى هي في الواقع وليدة تجربته الشخصية ومسار حياته المتعرج والمعقد.

المصدر: كتاب "معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا"، للمفكر والكاتب السوري "هاشم صالح" المقيم في فرنسا.