تمكنت حكومتنا من جعل كل افراد الشعب علماء في السياسة والاقتصاد. كلهم يعرفون سعر صرف الدولار ويعلمون سبب الانخفاض الارتفاع والتوقعات المستقبلية. وقد نجد أن توقعات صاحب البقالة، الموظف البسيط وحتى المتسولين في الشوارع صائبة أكثر من توقعات علماء الاقتصاد.

ليس الأمر غريبا، ‏لسبب بسيط وهو أن علماء الاقتصاد يرتكزون في تحليلاتهم على أسس علمية لا وجود لها في ظل نظام يؤمن بـ اللا سلطة "أناركي" حكومة تؤمن بشريعة الفساد وهذا التشريع يعرفه التاجر والشرطي وغيرهم اكثر من المتخصصين في المجال والمستشارين. وعليه يمكنني القول بأن الحكومة العراقية نجحت بنشر القلق وفقدان الثقة بالسياسة والاقتصاد في الحاضر والمستقبل بين كل فئات المجتمع.

‏وكما هو معروف فإن الدول المنكسرة والتي تقوم بحل جيشها المهزوم يتحول قادة الجيش السابق فيها الى ابطال في المقاهي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ليتحدثوا لنا عن انتصارات لم تحدث وكذلك هو شأن الاقتصاد والسياسة في العراق بعد أن فشل ‏السياسيون والاقتصاديون في تغيير الواقع انبرى كل من هب ودب لتقديم النصح والمشورة في شأن السياسة وطرح نظريات اقتصادية وكأنه هو البطل المنقذ.

ما اقوله ليس ادعاء فما عليك الا الجلوس في احد المقاهي والانصات لما يدور من احاديث بين الناس او قم بزيارة لأحدى منتديات العالم الافتراضي، وكفى بالفيسبوك دليلا.

وللامانة اقول ان الناس لا يتحدثون في هذه المواضيع للمتعة لان هذه المواضيع جافة وثقيلة لكنهم يتحدثون بها لخوفهم من الازمات التي تقف بطوابير امام مستقبلهم. ودليل كلامي إنني شخصيا أتحدث بهذا الموضوع بالرغم من إنني احمل شهادة الماجستير في تسويق الثروة السمكية الا إنني لا أحب الخوض في هذا الموضوع ولم اكتب فيه من قبل إلى إنني في الفترة الأخيرة أشعر أن هناك دافعا يدفعني للحديث فيها، ربما لكي افهم الغازا، على سبيل المثال ما لا افهمه هو ما حدث مع المنتج المحلي، الصناعة المحلية وقوانين الاستثمار وغيرها. أريد أن أفهم لماذا يقوم المزارع برمي منتوجاته ولا يتمكن من بيعها، لماذا فقدنا الثقة في المنتج المحلي، لماذا عندما نشتري بضاعة ألمانية وأمريكية نشعر بالاطمئنان مع العلم بأن القماش مصنوع في دولة عربية والخياطة في الصين، ومع ذلك نرى بأن المنتج ذو مواصفات عالية لا لسبب إلا لأنه منتج في تلك الدول، أريد أن أرى مديات الفساد.

استوقفني مقال يتحدث عن علاقة دول الخليج بالعراق في خمسينيات القرن الماضي وألقى الضوء على تفوق العراق على بقية الدول في كافة المجالات إذا كان من المتوقع أن يصبح العراق في مصافي الدول المتقدمة خلال 10 سنوات وفي ذلك المقال تم التطرق إلى الصناعة العراقية والمواصفات النوعية الممتازة لها وكيف أنه دول الخليج كانت تعمل جاهدة للحصول بضاعة عراقية المنشأ بالإضافة إلى ذلك تم إلقاء الضوء على مدى فخر العراقي وهو يتحدث عن المنتج المحلي. عندما ندرس اختلاف وجهات النظر في شخصية الإنسان العراقي ما بين خمسينيات القرن الماضي والوقت الحاضر نجد أن هناك اختلافا كبيرا في معاييره الإنسانية والوطنية.

نعم أقولها صريحة كان للاعتبارات الوطنية مكانة اسمى مما هي عليه في الوقت الحاضر.

لربما هناك من يسأل هل للأمر علاقة بالهزيمة والانتصار، أقولها وبصوت عال نــعم. ولا أقول هنا الانتصار والهزيمة بمفهوم الحرب من الطلقات والقنابل بل في حرب القيم الحضارية ومقاييس المواطنة، فالوطن الذي كان أمنا الحنون في الموروث الثقافي ويمثل علاقة الحب المتبادل بين الأم وابناءها وحرصها على سلامتهم لم يعد بعيون الشعب كذلك، ويجدون الام قد قصرت بواجبات الامومة وأحيانا تستحق أن تعاقب على تقصيرها. لم اتهم الحكومة الحالية بأنها السبب وراء ما وصلت إليه الأمور، وأعزز هذا الرأي بما قاله السيد إبراهيم الربيعي رحمه الله والذي التقيته في تسعينيات القرن الماضي رجل عراقي كبير كان شخصية عامة ورجل أعمال منذ خمسينيات القرن الماضي قال: كنا ويقصد معشر التجار نشعر بالقلق عندما تقلع الطائرة من مطار بغداد قبل عام 1967 لكن الأمر اختلف بعد ذلك إذا أصبحنا لا نشعر بالأمان الا بعد إقلاع الطائرة وعلى ما يبدو بأن هذا الرجل محق وأن الشعور بالأمان خارج الوطن بدأ يكبر داخل المجتمع العراقي عاما بعد عام، شعور تعززه المخاوف من الحروب والأزمات التي تقف في طوابير أمام مستقبل العراق. هذا الإحساس ينعكس كذلك على السوق العراقية وعلى المستهلك. إغراق السوق المحلية بالبضاعة الأجنبية دليل على ضياع البوصلة السياسية والاقتصادية وهذا الأمر ينعكس على تطبيق القانون والحفاظ على المقاييس الاستثمارية التي تعزز انتاج البضاعة المحلية وخلق سوق لها، هذا الأمر تسبب كذلك بزيادة التهريب على كافة الأصعدة تهريب تشارك فيه الأحزاب السياسية بالإضافة إلى المتنفذين والمهربين الكبار الذين تحولوا الى عصابات تتحكم بالسلطة. الشيء بالشيء يذكر فنحن نسمع دائما في حوارات تلفزيونية عن منافذ غير رسمية تتحكم بها هذه الجهة أو تلك، جلسات حوارية تتعاتب فيها هذه الأطراف على عدد المنافذ الحدودية الغير رسمية التي تمتلكها هذه الجهة أو تلك. متهمين بعضهم بعدم العدالة في عددها وتوزيعها وليس بعدم شرعيتها، أو أنه أمر غير خاضع للرقابة وقد يتسبب بالملاحقة القانونية. ولا يناقشون كذلك ما تتسبب في هذه المنافذ من دمار للسوق العراقية. مأساة إغراق السوق العراقية بالبضائع المهربة تضع يدنا على مشكلتين أساسيتين الأولى تتعلق بالفساد الإداري التي وصل إلى حد شراء المنفذ لساعات وإدخال ما يشاء التاجر في تلك الساعات من بضاعة قد تكون فاسدة وقد تكون أدوية ممنوعة أو مخدرات، والثانية تعكس لنا حجم التهرب الضريبي الموجود في البلد عندما نتحدث عن الفساد الإداري فعلينا أن نقولها صريحة. سقوط المعايير الأخلاقية في البلد جعل الرشوة أمرا طبيعيا على كافة المستويات.

زرت محكمة الموصل في عام 2008 والتقيت بأحد المحامين المشهور في الموصل من عائلة الجوادي وبعد أن تم تعريفه بي فقال مؤكدا إذن أنت ابن ابراهيم المفتي الذي كان رئيسا لمحكمة الموصل في الستينات إجبته نعم.

قال لي "اسمع يا ولدي! في زمن والدك كانت كل هذه المدينة تتحدث عن ثلاثة مرتشين أحدهم مضمد كان يأخذ العلاج من المستشفى ويبيعه في عيادته والثاني كان موظفا في دائرة الطابو يسرع المعاملات ويأخذ مقابل ذلك أتعابه والثالث لا أتذكره، وكما سمعت فلا أحد منهم يعمل في السلطة القضائية، اما اليوم فكل الكادر القضائي يتحدث عن حاكم نزيه واحد ليس في الموصل وليس في بغداد وليس في البصرة لكن في الحلة." وأنهى حديثه قائلا " لذلك لم يعد هناك مكان للشرفاء في هذه المدينة والكلام ينطبق على العراق بأكمله".

رأس المال جبان لا أعتقد أن هناك جهة ترغب في الاستثمار في دولة لا أحد يعلم من صاحب السلطة فيها مثل العراق. والفساد ينجب الفساد كما العنف ينجب العنف، فلا غرابة من عزوف المستثمرين الجادين عن الاستثمار في العراق ولا غرابة من هروب الكثير منهم بعد اصطدامهم بأيدي السلطة الطويلة من الميليشيات والعصابات. لا ارى ان لأحد السياسيين عصا سحرية لتغير كل هذا الخراب وإن وجدت الارادة، علينا أن نسأل عن الدول التي اشترت مثل هذا العصي ويبقى السؤال الأصعب بيد من ستكون هذه العصي؟