يختلف الصدر مع الشيوعيين في التأكيد على العلاقة بين القوى المنتجة والتطور العلمي بشكل عام ويحصر العلاقة بينهما في التقنيات والفنون العملية فحسب. وعلى زعم الماركسية "ان الظروف الاقتصادية والمادية، حين تسمح لقوى الانتاج، بطرح قضية جديدة الى العلماء، وتدفعهم الى التفكير في حلها، يصل هؤلاء العلماء الى الكشف المطلوب، في أوقات متقاربة، لان القوة الدافعة لهم قد وجدت في وقت واحد، من خلال تطور الانتاج"، يعترض الصدر قائلا: "ولكن هذا ليس هو التفسير الوحيد الممكن لهذه الظاهرة،" ويجادل في انه من الممكن تفسير الظاهرة عن طريق "تشابه أولئك العلماء، في الخبرة والشروط الفكرية والسيكولوجية، والمستوى العلمي العام".
ولاثبات مايذهب اليه، يسوق مثالا يؤكد عكس مايريد إثباته. فيقول في صفحة 138-139 "فقد توصل مثلا ثلاثة من علماء الاقتصاد السياسي، في وقت واحد الى (النظرية الحدّية) – ترجمة خاطئة سنشرحها لاحقا- في تفسير القيمة وهم جيفونز (William Stanley Jevons) الانجليزي سنة 1871 وفالراس (Marie-Esprit-Léon Walras) السويسري – تنبيه: فرنسي وليس سويسري- سنة 1874 وكارل منجر (Carl Menger) النمساوي سنة 1871... ولاعلاقة للمحتوى العلمي للنظرية بمشاكل الانتاج او تطورالقوى الطبيعية المنتجة، ولم تستمد دليلها من هذا التطور".
نعم! ثمة علاقة وثيقة للمحتوى العلمي للنظرية بمشاكل الانتاج وتطور القوى المنتجة. إنجلترا وفرنسا والنمسا دول تقع ضمن رقعة اروبا الغربية التي تم تثوير وسائل الانتاج فيها إبان الثورة الصناعية وبالتالي فظروف الانتاج ومشاكله وتطور آلاته كان متشابهاً حد التطابق في تلك الدول، إذن فالظروف الاقتصادية والمادية التي أوجدتها قوى الانتاج هي من حفز هؤلاء العلماء للوصول الى هذا الكشف في وقت واحد. ولو كانوا من دول متباعدة تتباين فيها مستويات تطور قوى الانتاج كمصر او الصين او نيجيريا أو غيرها مثلأ لسلمنا بجدلية الصدر.
أما فيما يخص النظرية الاقتصادية، فترجمتها غير دقيقة وتالياً غير موفقة. طبعاً لاذنب للصدر بذلك، لكننا نريد هنا اغتنام الفرصة للتأكيد على ما قلناه في المقالات السابقة عن ضياع كثير من قيم المؤلفات الاجنبية نتيجة تراجم عربية ركيكة ومن هنا تأتي مشكلة الاقتباس الخاطئ:
ترجمة Marginalism أقرب الى "النظرية الهامشية"، أو "نظرية القيمة الثانوية" منها الى "النظرية الحدية" لانها تستند الى المبدا القائل بطغيان أو تغلب القيمة الثانوية او الهامشية للمادة على قيمتها الرئيسية، كما تغلب قيمة الانبهار أو الرضى بالذهب، وهي قيمة ثانوية، قيمة الماء الرئيسية التي يفترض أن تكون أغلى من قيمة الذهب. مفردة "الحدية" لها دلالات مختلفة، صحيح ان مفردتي الهامش والحد مترادفتان وتعطيان معنى ماديا مشابهاً، لكن دلالاتهما تختلف اختلافا جلياً. أستطيع القول أن رؤية عبارة "النظرية الهامشية"، يمكن أن تقود القارئ العربي الى تخمين فحوى النظرية دون ان يخوص في تفاصيلها، في حين لا يمكن لعربي أن يفهم مفردة "حدّية" على أنها هامشية أو ثانوية مالم تلحق بجملة توضيحية.
ولا يرى الصدر ان العامل الاقتصادي وحده المسؤول عن بروز الطبقية الاجتماعية، بل يرى العلاقة بينهما تبادلية او عكسية، وقد يكون محقا في بعض الجوانب. وهو أيضاً لا يؤيد النظرية الشيوعية التي تعزو أي تغيير في أي منحى من مناحي الحياة الاجتماعية الى قوى الانتاج، لكن لاتعدو كتاباته عن كونها انتقادات لاذعة عَيّابة تخلو من حلول بديلة.
لم تخرج كتابات الصدر عن السياق العام لنتاجات المثقفين العرب إذ يركز جلها على عيوب الحلول المتوفرة دون تقديم البديل. . . العيوب التي يسهل إيجادها في اي حل او نظرية. لكن المنطق البراغماتي يقول على من يفشل في إيجاد البديل، القبول بما هو موجود. فالنظام السياسي الديمقراطي، على سبيل المثال، تم تبنيه ليس لانه النظام السياسي المتكامل والامثل على الاطلاق بل لانه الاقل سوءا من بين النظم السياسية الاخرى. قال ونستون تشرشل: "الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم باستثناء جميع الأشكال الأخرى التي تتم تجربتها بين الحين والآخر".
التعليقات