في فصل "نظرية المادية التاريخية" صفحة 39 في كتاب إقتصادنا، غرّب الصدر وشرّق بحثا عما يفند المفهوم المادي للتاريخ او ما يعرف كذلك بالمادية التاريخية (Historical materialism) لكنه لم يوفق رغم ثقته العالية بنفسه حتى الغرور اذ قال في موضع آخر انه كان سيحلل النظرية ثم "ينسفها".

لست مدافعا هنا عن الشيوعية، فقد أثبت فشلها سبعة عقود من التطبيق وهذه نتيجة طبيعية ومتوقعة لنظرية لا تعير اعتبارا للنواميس والنزعات البشرية، وعن هذا لا تبتعد النظرية التي دعا اليها الصدر: نظام اقتصاد إسلامي يعتمد المثالية وإماتة الغزائز الجسدية ويتبنى التقشف وينظر الى ما في السماء ويزهد بما في الارض، وكل تلك صفات مثالية تتعارض مع الغرائز والميول المادية والتركيب الجسدي والفكري للانسان.

الصدر ومن على شاكلته من الثيولوجيين هم نتاج المدرسة المثالية التي تقول أن كل شيء حادث بارادة الله وعلينا كعبيد التوقف عن البحث فيما يدور حولنا لاننا ان فعلنا فقد نقع في المحظور: التشكيك بقدرة الله على إدارته الكون أو البحث فيما علمه عند الله وحده. محاولاً تسفيه كل بحث علمي يتناول الفيزيقي بمعزل عن الميتافيزيقي، هاجم الصدر كارل ماركس قائلا بانه "يسبغ صفة الالوهية على الأداة المنتجة،" وذلك للدور الكبير الذي اعطاه ماركس للاداة (الآلة) في صناعة التاريخ.

لم يعتد الرأسماليون – الأعداء التقليديون للشيوعية – باي من أفكار كارل ماركس عدا تفسيره المادي للتاريخ الذي لم يقروه فحسب، بل أطلقوا عليه "التعريف العلمي للتاريخ"، وما كانوا ليعترفوا له بذلك لو أنهم توصلوا الى ما ينقض مذهبه في هذا الجانب. الصدر، بعد كل هذا، يحاول إعادة صب جدليات رأسمالية فشلت في دحض التعريف المادي للتاريخ في قالب مثالي، وهو، بوصفه أحد أبناء المدرسة المثالية التي تعزو تفسير كل شيء الى الافكار والنزعات الروحية لدى الانسان، لم يأت بجديد بل -كما ذكرنا في المقالات السابقة- استعار جدليات مفكرين مناوئين للفكر الماركسي وساقها في كتابه موضوع البحث، وبالتالي فهو لم يضف شيئا الى المكتبة الفكرية الانسانية.

ثمة نقاط إختلاف بقيت على حالها بعد أن قفلت والقيت مقاليدها في البحر إذ نفد الجدل حولها ووصل نهايته، ومن يؤلف كتباً تعيد إجترار الأفكار المطروقة سلفا -مثلما فعل الصدر- فهو أنما يريد ايهامنا انه مفكر خلاّق لكنه بالحقيقة ليس إلا حافظ أسفارٍ. إحدى النقاط الجدلية التي قفلت على سبيل المثال، إثبات وجود خالق للكون، اذ حتى الآن لم يستطع أحد إضافة اي جديد لجدليات أو حجج أوجزها توما الاكويني بخمس في القرن الثالث عشر الميلادي، ومهما إجتهد أو تفلسف او تفيقه أحد في إثبات وجود الخالق فلا تخرج أفكاره عن إحدى أو بعض او جميع هذه الحجج. ما الفائدة اذن من اعادة إجترار الممضوغ وصبه في قالب تعبيري جديد؟ الحجج الخمس هي: حجة العليّة (Causation Argument) ، حجة المحرك الأول (First Mover Argument)، الحجة الكونية (Cosmological Argument)، حجة التدرج (Argument of Degree)، الحجة الغائية او حجة التصميم (Teleological Argument).

كلما طرأت نظرية أدبية أو علمية، ينبري لها أنصار ومناوؤون يقدمون ماتجود به قرائحهم من حجج وبراهين تؤكد صحة أو زيف تلك النظرية، وبالتالي يتكون بمرور السنين نتاج أدبي هائل حول المسألة المبحوثة، فاما ان يتم دحضها وتسفيهها ثم انحسارها واندثارها، وإما ان تنجح النظرية الجديدة نافضة غبار كل الاختبارت العسيرة التي يخضعها لها معارضوها، وإما أن تبقى تتأرجح بين كفتي الميزان. الجدل الذي تولِّده اي نظرية جديدة يمكن ان يُكوّن مكتبة هائلة تشكل مرجعاً رئيسياً لمن يروم دراستها او البحث فيها. في رده على المذاهب الاقتصادية العالمية، ينبش الصدر في هكذا أدبيات لينتحل جدليات وحجج سابقيه أومجايليه من معارضي تلك المذاهب، فتبدو للقارئ وكأنها حججه هو مما قاد بعض القرّاء الى الاعتقاد إنه كان فيلسوف وليس مجرد باحث أو كاتب.

إحدى مؤاخذات الصدر على التفسير الشيوعي المادي للتاريخ، أنه يختزل حركة التاريخ بعامل واحد، ولإ يضاح هذه الفكرة، عرج باختصار شديد على نظريات أخرى إعتقدها مخطئاً أنها أيضاً تختزل القوة المحركة للتاريخ بعامل واحد.

يقول في صفحة 41 " فمن ألوان هذا الاتجاه . . . الرأي القائل بالجنس كسبب أعلى في المضمار الاجتماعي فهو يؤكد أن الحضارات البشرية والمدنيات الاجتماعية تختلف بمقدار الثروة المذخورة في صميم الجنس." طبعا هو يقصد بالجنس هنا (Race)، والنظرية التي يشير اليها تدعى (Eugenics) واذا بحثت، عزيزي القارئ، هذه المفردة في محرك البحث كوكل سيقول لك إنها: "دراسة كيفية تنظيم عملية التكاثر داخل مجتمع بشري معين لتكريس صفات وراثية مفضلة، وضعها السير فرانسيس غالتون في محاولة لتطويرعلم تحسين الجنس البشري، لكن النظرية لاقت رفضاً متزايداً في القرن العشرين باعتبارها عنصرية وغيرعلمية ، خاصة بعد أن تبناها النازيون لتبرير معاملتهم لليهود والمعوقين، والأقليات الأخرى".

الصدر لم يتحدث عمن رفض هذه النظرية من المفكرين الغربيين لانه أولاً يريد الإدعاء أنه هو أول من كشف زيفها، وثانياُ لا يريد ان يسلط الضوء على الجانب المشرق والانساني من الفكر الغربي، لان ذلك من شأنه أن يجرده من سلاح فعال في الترويج لتبني نظام اقتصادي اسلامي موهوم. فقبل طرح أي فكرة محلية جديدة، عمد الاسلامويون على مهاجمة الافكار العالمية السائدة وشيطنة منظريها وأهدافهم خصوصا وان إغلبهم لا ينتمي لنفس الجغرافية والدين والثقافة المحلية. بكلمة أخرى، يعني تبدأ جهود التوطئة لمن يروج لفكر إسلاموي بحملة تخويف من كل ماهو أجنبي (xenophobia) وهذا ما يفعله تقريبا جميع منظري الاسلام السياسي.

ثم ساق مثلاً آخراً على نظريات العامل الواحد، ورغم ان تلك النظرية لم تبحث الاقتصاد او التاريخ انما هي نظرية نفسية، لا أدري كيف خلص الى انها نظرية تفسر التاريخ بعامل واحد. إدعى في الصفحة 42-43 مهاجماً نظرية التحليل النفسي للعالم النمساوي سيجموند فرويد إنها تجادل في "إن الغريزة الجنسية هي السر الحقيقي الكامن وراء مختلف النشاطات الانسانية، التي يتألف منها التاريخ والمجتمع فليست حياة الانسان الا سلسلة من الاندفاعات الشعورية او اللاشعورية عن تلك الغريزة". لم يشر هنا الى المصدر الذي اقتبس منه الفقرة اعلاه وأشك انه أضاف عبارة "التي يتألف منها التاريخ والمجتمع" من عندياته كي يخلق علاقة بين النظرية وبين الموضوع الذي يناقشه – المادية التاريخية.

أنا شخصيا لا أعتقد ان الصدر تناول نظرية التحليل النفسي اعتباطا، إنما أراد توظيفها كفزّاعة لانه أعرف بالمزاج العربي والاسلامي المنافق عندما يتعلق الأمر بالجنس. فحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل وتنظيم العلاقات الجنسية بينهما وفق قوانين وضعية - وليس تشريعات سماوية مفترضة - هو أكثر ما يخيف العرب والمسلمين من الافكار الغربية العلمانية.

وحول الدليل السيكولوجي للمادية التاريخية في الصفحة 77 ، يجادل الصدر في أن الفكر يسبق اللغة وليس العكس: "فاللغة ليست أساس الفكر، وإنما هي إسلوب خاص للتعبير عنه"، يقول الصدر في الصفحة 83، وإنتقد ستالين لانه قال ان الافكار "لا يمكن أن تولد أو توجد الا على أساس أدوات اللغة، أي على أساس الالفاظ والجمل اللغوية".

ليس ستالين وحده من قال بذلك إنما كان كلامه صدى لنتاجات مفكرين سابقين ومعاصرين له، ففي أربعينيات القرن المنصرم، درس اللغوي الامريكي بنيامين لي ورف لغة الهوبي (Hopi) وهي لغة يتحدثها السكان الاصليون في شمال شرق ولاية أريزونا وخلص الى ان متحدثي لغة الهوبي لا يرون العالم كما يراه متحدثو اللغة الانكليزية وذلك لاختلاف اللغتين اللتين يتحدثون، ونسبة اليه، أطلق على هذه النظرية الورفانية (Whorfianism).

وفكرة أن اللغة الأم للشخص هي التي تحدد الطريقة التي يفكر بها، كانت شائعة بين السلوكيين (Behaviorists) منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وهذا أيضا يؤكده مفهوم الحتمية اللغوية (linguistic determinism) القائل بأن اللغة وتراكيبها تحدد المعرفة أو الفكر البشري وعمليات التفكير مثل التصنيف والذاكرة والإدراك. بمعنى أن اللغات الأصلية للناس تؤثر على عملية تفكيرهم، وبالتالي سيختلف تفكيرهم تبعا لاختلاف لغاتهم الامهات.

ولم تكن هذه الافكار من المسلمات العلمية بل أثارت جدلا واسعا بين من يؤيد ومن يعارض، ولست متأكدا من بداية تاريخ هذه الافكار لكن إذا اقتفينا أثرها حتى القرون الوسطى فسنجد أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت كان بين أهم القائلين بوجود الفكر قبل اللغة في القرن السادس عشر الميلادي، إذ قال بوجود اربعة أفكار فطرية -تولد مع الانسان- (Innate Ideas) فكرة وجود الله وفكرة محدودية العقل وفكرة لا محدودية الجسد وفكرة الاتحاد بين العقل والجسد.

وفي وقتنا المعاصر إعتبر التجمع اللغوي الامريكي (linguistic Society of America) أن جدلية تأثر التفكير باللغة أو العكس هي كجدلية البيضة والدجاجة. وحسب نفس المصدر، ليس فقط اللغة والتفكير طرفا العملية، بل ثمة عوامل اخرى تدخل المعادلة كالثقافة المحلية والتقاليد وطرق الحياة والعادات التي نتعلمها من مجتمعاتنا... كل هذه العوامل، يؤكد التجمع اللغوي الامريكي، تؤثر على طريقتي حديثنا وتفكيرنا.

ومرة أخرى ينضم الصدر الى جوقة من سبقه من معارضي من قال بعدم قدرة الانسان على التفكير بدون لغة. انتبه عزيزي القارئ، هو أيّد سابقيه ولم يكن الأول السبّاق الى نقد الفكرة كما قد يبدو لك ذلك. إقتبس جدليات القائلين باسبقية اللغة على التفكير مثل ستالين وبافلوف وبولتز كي يفندها بأفكار معارضيها الغربيين الذين لم يشر الى أي منهم للاسباب التي ذكرتها أعلاه.