حين أدرك ورطته، هوّن محمد باقر الصدر من قيمة بحثه وخفض سقف التوقعات فميَّز بين علم الاقتصاد والمذهب (أو النظام) الاقتصادي وبرر استحالة ايجاد بديل لعلم الاقتصاد المعاصر بانه حديث، مؤكدا ان بحثه ليس الا محاولة لوضع بدايات لتأسيس مذهب اقتصادي إسلامي. ورغم ان تلك البدايات لم يكتب لها النجاح، مابرح الاسلاميون يطبلون لكتاب إقتصادنا ويقدمونه بوصفه انجاز عالمي.
يقول المؤلف في (ص 31): " فنحن حين نطلق كلمة: (الاقتصاد الاسلامي) لانعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرة، لان هذا العلم حديث الولادة نسبيا، ولان الاسلام دين دعوة ومنهج حياة وليس من وظيفته الاصيلة ممارسة البحوث العلمية . . وإنما نعني بالاقتصاد الاسلامي: المذهب الاقتصادي للاسلام الذي تتجسد فيه الطريقة الاسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية."
ليس من وظيفة الاسلام الاصيلة ان يجري بحوثا علمية لانه مجرد دين دعوة، ولكن يوحي المؤلف الى ان من وظيفة الاسلام الاصيلة ان تخضع البحوث العلمية الدنيوية الى الولي او الوصي الإلهي فيُحَرٍّم مايراه مخالفاً لـ"الطريقة الاسلامية في تنظيم الحياة" ويحلل مايراه منسجماً معها فيما أطلق عليه الصدر عبارة "رأي الاسلام،" وطبعا بامكان الولي منعها جميعا تأسيا بالخليفة عمر بن الخطاب (رض) لما جاءه كتاب عمرو بن العاص يسأله بشأن مكتبة الاسكندرية فكان الرد ان لاحاجة لنا بما يتفق مع كتاب الله واحرق مايخالفه، فأمر بن العاص بحرق اكثر من 700 الف مجلد، وقيل استمرت مخابز الاسكندرية تسجر كتبا لستة اشهر.
ويقول الصدر في (ص 32) من كتابه "وحينما نريد ان نعرف رأي الاسلام في حقيقية الدور الذي يلعبه كل من رأس المال ووسائل الانتاج والعمل في عملية الانتاج . . . يجب ان ندرس ذلك من خلال الحقوق التي اعطاها الاسلام لكل واحد من هذه العناصر في مجال التوزيع كما هو مشروع في أحكام: الاجارة والمضاربة والمساقاة والمزارعة والبيع والقروض."
تتلاقح الحضارات ،سواء متزامنة أكانت أم متتالية، وتبني الناشئة منها على ماأسست النافقة، لذا لااحد يستطيع الادعاء أنه قادر على رسم خط فاصل بين الافكار الاسلامية والافكار غير الاسلامية، فالانتاج الفكري الانساني والمعاملات الاقتصادية متداخلة ومتشابكة بشكل يصعب معه فصلها وتتبع جذورها ومنشأها، وما تأطير الافكار الانسانية باطار ديني او قومي محلي، الا محاولة لتزييف الحقائق التاريخية وعزل شعب معين عن المسيرة الانسانية للانفراد بحكمه وفق أحكام دينية بدائية.
على سبيل المثال، من يتتبع السياق التاريخي لـ "المزارعة" أو ((sharecropping المذكورة في الفقرة المقتبسة أعلاه واحكامها الاسلامية يجد جذورتشريعاتها الاسلامية نابعة من تشريعات بابلية وفرعونية ورمانية وصينية واغريقية . . . الخ، فالاسلام نشأ في الجزيرة العربية وهي بيئة صحراوية طريقة العيش فيها بدوية رعوية ومقومات الزراعة فيها شحيحة (الفلاحون المهرة والانهار والاراضي الصالحة للزراعة) وبالتالي فمن المنطقي ان يكون البابليون والفراعنة سبقوا أهل الجزيرة الى وضع تشريعات تنظم عقود المزارعة لان الحضاريتن اعتمدتا على الزراعة. وبالتالي لايمكن للصدر ان يؤطر الممارسات الاقتصادية التي ورثها عرب الجزيرة -او شعوب الدول التي ضمها المسلمون الى امبراطوريتهم- باطار إسلامي.
نص القانون البالبلي على جواز تأجير الارض الزراعية باجر ثابت شريطة أن يقوم المسـتأجر بزراعة محصول معين ويحافظ على حراثة الحقل. وعند وقوع الخسارة العرضية على المستأجر force majeure)) وكان تم تأجيره بشرط تقاسم الأرباح، فإن المالك والمستأجر يتقاسمان الخسارة بشكل متناسب مع حصتهما المنصوص عليها في الربح. [هذه الممارسة -مشاركة الربح والخسارة- انتحلها الاسلامويون وأسموها " المشاركة" فيما أطلقوا عليه الاقتصاد الاسلامي]. وإذا دفع المستأجر إيجاره وأبقى الأرض في حراثة جيدة ، فلا يمكن للمالك التدخل أو منع التأجير من الباطن subletting)).
يمكن تأجير الأراضي القاحلة للاستصلاح ، ويكون المستأجر في هذه الحال معفيًا من الإيجار لمدة ثلاث سنوات وعليه دفع الإيجار المنصوص عليه في السنة الرابعة. إذا أهمل المستأجر استصلاح الأرض ، فقد نص القانون على وجوب إعادتها الى المالك وهي محروثة جيدا. تم تأجير الحدائق أو البساتين بنفس الطرق وبنفس الشروط ؛ ولكن بالنسبة لبساتين التمور، سُمح بحيازتها المجانية لمدة أربع سنوات. ويوفر مالك اراضي المعابد للمستأجر كل مايحتاجه لزراعة الارض من عربات وثيران الحرث وآلات الري والدرس والبذور وعلف الماشية، وإذا سرق المستأجر البذور او العلف تقطع أصابعه، واذا إستحوذ على الآلات وباعها أو أجاع الماشية أو أجرها من الباطن يدفع غرامة باهضة. واذا أهمل مزارع اصلاح السد الخاص به وتركه مفتوحا وتسبب في حدوث فيضان فعليه إصلاح الأضرار التي لحقت بمحاصيل جيرانه أو بيعه مع عائلته لدفع التكلفة. وأجاز البابليون تأجير الأرض لغرض بناء منازل أو مبانٍ أخرى عليها ، ولايدفع المستأجر إيجارا لمدة ثماني أو عشر سنوات ؛ وبعد ذلك يصبح المبنى ملك المالك. [هذه الممارسة الاقتصادية ماتزال معمول بها في العراق تحت مسمى "المساطحة"]
الأمر الآخر المعيب على كتاب اقتصادنا هو اقتصار بحث مؤلفه على الجانب النظري للمذاهب الاقتصادية وعدم تطرقه الى المعاملات والتبادلات التجارية اليومية الواقعية لاي من هذه المذاهب، وخلو طرحه من أمثلة واقعية أفقده قوة الحجة والاقناع. يمكننا أن نعزو سبب ذلك الى عدم حاجته الى العمل الجسدي وتاليا عدم نزوله الى السوق واندكاكه اليومي بالعامة، إذ جرت العادة على إنهماك من هم بمنزلته الدينية بدراسات حوزوية نظرية تتكفل قبالها الحوزة بتكاليف معيشته إعتمادا على مداخيلها من أموال الزكاة والخمس والصدقات.
وفي ضوء حديثه عن الملكية، عرّف لنا الصدر معنى "ملكية الدولة" من وجهة نظره، فكتب : "ملكية الدولة تعني في مفهومنا: كل مال كان ملكا للمنصب الالهي في الدولة، فهو ملك للدولة. ولمن يشغل المنصب أصالة أو وكالة التصرف فيه وفقا لماقرره الإسلام" (ص 35).
من يشغل المنصب الالهي في الدولة أصالة هو الامام المهدي ومن يشغله وكالة هو الولي الفقيه (عند اتباع مدرسة ولاية الفقيه السياسية من الشيعة). هذه طبعا دعوة جلية لالبس فيها ولاتقبل تأويلا ان لوكيل الله في الارض السلطة المطلقة للتصرف بأموال المسلمين "وفقا لما قرره الاسلام" وقد اختلف وكلاء الله في مفهوم "ماقرره الاسلام،" فالخميني والصدر والخامنائي لايرون قرار الاسلام كما يراه أسامة بن لادن أو ابو الاعلى مودودي او أبو بكرالبغدادي ولكن لاجناح عليهم إن أخطأوا في استنباط الاحكام، فللمجتهد حسنة واحدة إن أخطأ واثنتان إن أصاب.
لتكريس الحكم بيد "أوصياء الله في الأرض" يرفع اسلاميو اليوم شعار خوارج الامس "لاحكم الا لله" [الحاكمية]، بذريعة ان النظام الديمقراطي من إنتاج المستعمرين وجذوره إغريقية-رومانية، بيد انهم يستعيرون منه ممارسة الانتخابات فحسب، يستعملونها سلًّم يوصلهم الى اعلى الهرم ولما يستقروا على العرش يركلوه بعيدا، فلا هم نازلون ولاغيرهم صاعد، فالانتخابات ،حسب المغفور له الشيخ الجزائري عباس مدني مؤسس الجبهة الاسلامية للانقاذ، ليس الا وسيلة لوصول الاسلاميين الى الحكم، بعدها يجب ان تلغى. وإن استمر الاسلاميون باقامة الانتخابات فهي انتخابات -صورية في احسن الاحوال- داخل الحركة او الجبهة أو التيار او الحزب الاسلامي الواحد لاختيار من يترأس مؤسسات الحزب الحاكم الخاضع جميعها لسلطة المرشد الاعلى كما يجري حاليا في ايران. وفي العراق، تحتكر خمسة احزاب اسلاموية شيعية ( الحكمة والفضيلة والدعوة خارج والدعوة داخل والتيار الصدري) العمل السياسي في بغداد والمحافظات الجنوبية، ولم تجد نهجا غير الانتخابات يساعدهم على إعادة توزيع المغانم بما يناسب حجم القاعدة الشعبية لكل حزب، كي لايقتتلوا فيما بينهم.