علم الاقتصاد الذي نعرف لم ينشأ نتيجة بذخ فكري أو عصف ذهني آني لمفكر عاطل عن العمل او رجل دين معتكف في صومعته، إنما هو تراكم فكري لقرون ونتيجة حتمية لانهاء الفوضى القانونية التي صاحبت الثورة الصناعية من خلال تنظيم العلاقات بين رأس المال والمالك والعامل والمستهلك وآلة الانتاج وقيمة الجهد. والأمة الاسلامية لم تمر بهكذا مخاض وتاليا لم تشهد فوضى تحتاج لتنظيم العلاقات بين أطراف المعادلة الاقتصادية، لذا فمن العبث النبش في التاريخ الاسلامي على أمل إيجاد تعاملات وممارسات حدثت في أزمنة متفرقة تكفي لبلورة نظام إقتصادي إسلامي.
ليس هناك فراغ إقتصادي في العالم يمكن أن يشغله نظام إقتصادي إسلامي، ومهما إعتقد أي اقتصادي او فيلسوف اسلامي انه قادر على وضع اسس لنظام اقتصادي اسلامي يختلف عن النظم المتبعة في عالمنا المعاصر فهو مخطئ لانه في نهاية المطاف سيضطر الى استعارة تطبيقات إقتصادية غربية ويلبسها لباسأ إسلاميا.
إذا إنتصر الاقتصادي الاسلامي للعامل على حساب رب العمل فهو اشتراكي، واذا انتصر لرب العمل أو صاحب رأس المال على العامل فهو رأسمالي وإن ساوى بينهما فهو من أنصار النظام الاقتصادي المختلط، وبالتالي فلا محيص للمفكر الاسلامي عن البناء على احد هذه الخيارات، وإن فعل فهو لم يأت بجديد.
كنت قبل سنوات كتبت مقالا يجادل في كون الافكار مخلوقة وغير مبتكرة، وما نتاج العالم الفكري الا دوران حول محيط الفكرة ونقيضها. لكل مشكلة حلا واحدا يكون الافضل بن حلول متعددة، وحينما يسبقك احدهم الى هذا الحل فلاتستنكف ان تأخذه من مصدره لانك لاتستطيع إيجاد حل اكثر نجاعة منه، وان أخذتك العزة بالتغيير، فستجد نفسك مجبرا على تزويقه وتغيير هيأته كي يختلط الأمر على الناس فتدعيه لنفسك.
يقول الصدر في الصفحة 12 من كتاب "اقتصادنا"عند تطبيق اي منهج اقتصادي " لابد أن نلاحظ الظروف الموضوعية للامة وتركيبها النفسي والتاريخي" ويجادل ،في أماكن أخرى، ان لدى الشعوب الاسلامية حساسية مفرطة من المستعمر وافكاره مهما كانت نافعة لذا فتبني اي منها سيقود حتما الى الفشل. يعني مثلا، كي لاتجرح شعور الامة المفرط الحساسية، عليك الغوص في تراث الامة ونفخ قربة الوثيقة العمرية، على سبيل المثال، لتجعل منها دستورا ينافس دساتير الامم المعاصرة، وإذا كانت الديمقراطية التي تسود العالم المعاصر نظام حكم ابتدعه الاغريقيون قبل ظهورالاسلام بمئات السنين، فعلى مفكري الامة الاسلامية ان يستنبطوا من الآية (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) نظام ديمقراطي اسلامي لورود عبارة " وأمرهم شورى بينهم."
الحساسية المفرطة لدى الامة من أفكار المستعمرين ليس الا ذريعة يتخذها الاسلاميون للانفراد باستغلال الشعوب الاسلامية وعزلها عن محيطها العالمي. لماذا لاتتحسس الشعوب البوذية والهندوسية والسيخية واتباع الديانات الآسيوية الاخرى من أفكار المستعمرين؟ الجواب ببساطة هو لان رجال الدين عندهم لايريدون أن يحكموا شعوبهم باسم الدين ولايعتقدون ان الآلهة خولتهم التدخل بكل تفاصيل حياة أتباعهم.
يقول في الصفحة 13 و 14 "فحركة الامة كلها شرط أساسي لانجاح أي تنمية واي معركة شاملة ضد التخلف ... فحين نريد ان نختار منهجا أو إطارا عاما للتنمية الاقتصادية داخل العالم الاسلامي يجب ان نفتش عن مركب حضاري قادر على تحريك الامة وتعبئة قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف ولابد حينئذ ان ندخل في هذا الحساب مشاعر الامة ونفسيتها وتاريخها وتعقيداتها المختلفة." هو لم يأت بجديد في هذه الفقرة إنما عَرَّبَ معنى القوة الدافعة Driving Force التي اشترط وجودها الاقتصاديون الغربيون لنجاح اي نظام أقتصادي، ولو أنه لم يقرأ لهم لحسبناه توارد خواطر ولكنها سرقة أدبية في هذه الحالة لانه لم ينسبها الى قائليها.
الذي يحاول الصدر ايصاله للقارئ هنا هو ان القوة الدافعة لنجاح أي نظام اقتصادي في المجتمعات الاسلامية يتجسد في الاسلام، لكن التاريخ أثبت أن الديانات لم تنجح بوضع نظام اقتصادي فعال ولا في خلق مجتمعات لاطبقية لانها تتعارض مع النواميس الفطرية لدى الانسان كحب التملك والانانية وحب التميز ، فالديانات جميعا تدعو الى كبح جماح الغرائز وإماتة الشهوات الجسدية mortification of the flesh وهي بذلك أقرب الى النظام الاشتراكي الذي اثبتت تجربة الـ 80 عام السوفيتية فشله لانه يقتل المنافسة ويساوي بين كل اطراف العملية الاقتصادية بغض النظر عن الفروقات الفردية، فالعمل مكفول للكل والأجور متساوية او متقاربة في أحسن الاحوال. القديس المسيحي الفرنسي هنري سيمون كان من أوائل منظري النظام الاقتصادي الاشتراكي في القرن الثامن عشر وكان يدعو الى تدخل الدولة بالحياة الاقتصادية، ولو خرج علينا اليوم مفكر اسلامي كالمرحوم الصدر بنظرية اقتصادية جديدة لما ابتعد كثيرا عن أفكار سلفه المسيحي هنري سيمون لان الشمولية السياسية والاقتصادية هي القطب الذي تدور عليه أفكار الاسلامويين.
وفي نفس الصفحة (14) يقول المؤلف "فلابد للامة بحكم ظروفها النفسية التي خلقها عصر الاستعمار وانكماشها تجاه مايتصل به أن تقيم نهضتها الحديثة على اساس نظام اجتماعي ومعالم حضارية لاتمت الى بلاد المستعمرين بنسب.وهذه الحقيقة الواضحة هي التي جعلت عددا من التكتلات السياسية في العالم الاسلامي تفكر في اتخاذ القومية فلسفة وقاعدة للحضارة وأساسا للتنظيم الاجتماعي حرصا منهم على تقديم شعارات منفصلة عن الكيان الفكري للاستعمار."
التكتلات السياسية التي اتخذت من القومية فلسفة وقاعدة للحضارة، أيها المؤلف، استمدت كل افكارها المتطرفة من احد معسكري الاستعمار (دول المحور)، إذ تأسس أكبر هذه التكتلات -حزب البعث العربي الاشتراكي- عام 1947 وكان مؤسسه ميشيل عفلق يدرس في جامعة السوربون وغبار الحرب العالمية الثانية لم ينجل بعد وكانت ماتزال غالبية وسائل الاعلام تتقيأ أفكارا قومية متطرفة نهلت منها الحركات القومية العربية التي عاصرتها ، والفلسفة الاشتراكية التي تبنتها هذه التكتلات على استحياء – كما اوحى المؤلف- هي فلسفة دول المحور. والاحرى به أن يقول "ونتيجة الظروف النفسية التي خلقها عصر استعمار (دول التحالف) إتجهت التكتلات القومية في العالم الاسلامي الى تبني أفكار استعمار ( دول المحور ) وذلك لتقديم شعارات متصلة بالفكر الفاشي الايطالي المستعمر والالماني النازي ومنفصلة عن افكار المستعمرين من معسكر دول التحالف بقيادة أمريكا وبريطانيا."
كذلك يجادل المؤلف في الصفحة 16 " إنما أحاول ابراز هذا التناقض بين مناهج الانسان الاوربي والعقيدة الدينية للانسان المسلم بوصفها قوة تعيش داخل العالم الاسلامي بقطع النظر عن أي تقييم لها فان هذه القوة مهما قدرنا لها من تفكك وانحلال نتيجة لعمل الاستعمار ضدها في العالم الاسلامي، لايزال لها أثرها الكبير في توجيه السلوك وخلق المشاعر وتحديد النظرة نحو الاشياء."
"تفكك وانحلال العقيدة الدينية نتيجة لعمل الاستعمار ضدها في العالم الاسلامي" لايخلو أي كتاب اسلاموي او محاضرة او مقابلة تلفزيزنية مع رجل دين اسلاموي من هذه الاتهامات، واريد هنا أن أؤكد للقارئ الكريم زيف هكذا ادعاءات: عندما إطلع الشيخ محمد عبده على حياة الاوربيين،أعجب باحترام الناس لبعضهم البعض وتأدية أعمالهم بإخلاص ودقة وأمانة، وعدم تجاوز أحدهم على حرية الآخر، وعند مقارنة أخلاق الاوربيين واخلاق المسلمين الذين عاش بينهم قال قولته الشهيرة "رأيت فى أوروبا إسلاما بلا مسلمين وفي بلداننا اسلاما بلا مسلمين." أليس هذا تأكيدا على ان اخلاق الانسان الاوربي اسمى من اخلاق غالبية المسلمين في بلداننا؟
حين يتحدث الاسلاموي عن التفكك والانحلال فانه يشير الى الجنس ليس الا، ومايؤاخذ الاسلامويون على الاروبيين انهم يساوون بين الرجل والمرأة وتحمي قوانينهم الاطفال حتى من أبويهم وهذا يراه الاسلاموي تدخلا سافرا في حق الرجل والحد من سلطته المطلقة على العائلة لان من شأن هكذا قوانين ان تقضي على ممارسات اخلاقية اسلامية كتفخيذ الرضيعة وإرضاع الكبير والدخول بالاطفال الاناث حتى قبل بلوغ التاسعة وجواز سرقة مال الدولة التي لاتحكم وفق الشريعة الاسلامية وجواز سرقة الموارد الطبيعية للدولة لانها مجهولة المالك، وقد تتعدى ذلك كله وتسيء الى تاريخنا الاسلامي المُنَجَّد بقصص الاماء والجواري والسبايا والغانيات والغلمان والخصيان. من يدري؟ لعل محاولات المستعمرين في تفكك وانحلال العقيدة الاسلامية تطول حتى مبادئ الرفق بالحيوان، وقد يضعون قوانينا تمنع المسلم ليس فقط من صفع زوجته، بل حتى من جلد حماره او تجريم ممارسة هواية قتل القطط والكلاب السائبة. قبل ان تطأ رجل أول مستعمر في بلداننا الاسلامية، هل كانت الدولة العثمانية دولة فاضلة؟ أم الصفوية أم الفاطمية أم العباسية؟