لم يكن محمد باقر الصدر – على الاقل في كتاب اقتصادنا- باحثا محايدا، بل كان متحاملا على الاوربيين وثقافتهم ونعتهم بأسوأ النعوت. ويقينا انه كان يعبر عن نفسه وثلة الاسلامويين الذين اغاضهم التقدم الغربي المطرد أمام التراجع الشرقي المخيف وخصوصا ذلك التراجع والجهل والفقر والصراعات التي كشف عنها تفكك الدولة العثمانية بعد اندحارها في الحرب العالمية الاولى. فصار يهاجم الغربيين وقيمهم وسلوكياتهم وطرق حياتهم، حتى لقد إختزل الايمان بالحرية والفردية الراسخة لدى مجتمعاتهم- حسب وصفه- بمفهوم التحلل والتفسخ الاجتماعي ووصفها بانها تعبير عن "إنعدام الشعور بالمسؤولية".الحرية والاستقلال والفردية يعتقدها الصدر مخطئا قيم غربية -وليس انسانية- ترفضها المجتمعات الاسلامية، فبشَّر بفشل اي نظام اقتصادي يعتمد الحرية في الدول الاسلامية لانه لايعتقد ان الحرية واحدة من القيم الراسخة لدى المجتمعات الاسلامية.
في صفحة 19 و20 يقول " وقد قامت الحرية بدور رئيسي في الاقتصاد الاوربي وأمكن لعملية التنمية أن تستفيد من الشعور الراسخ لدى الانسان الاوربي بالحرية والاستقلال والفردية في نجاح الاقتصاد الحر بوصفه وسيلة تتفق مع الميول الراسخة في نفوس الشعوب الاوربية وافكارها . . . وكلنا نعلم ان الشعور العميق بالحرية كان يوفر شرطا اساسيا لكثير من النشاطات التي ساهمت في عملية التنمية وهو انعدام الشعور بالمسؤولية الاخلاقية الذي لم تكن تلك النشاطات لتتم بدونه."
ثم أنه يتحدث عن سمو اخلاقيات الامة الاسلامية وتدني اخلاقيات المجتمعات الاوربية ويجادل في صفحة 21 " وهذه الاخلاقية [الاوربية] تختلف عن الاخلاقية التي تعيشها الامة داخل العالم الاسلامي نتيجة لتاريخها الديني فالانسان الشرقي الذي ربته رسالات السماء وعاشت في بلاده ومر بتربية دينية مديدة على يد الاسلام ينظر بطبيعته الى السماء قبل أن ينظر الى الأرض ويؤخذ بعالم الغيب قبل أن يؤخذ بالمادة والمحسوس."
العلاقات الاجتماعية والمنظومة الاخلاقية في أوربا في وقت تأليف الصدر لكتابه موضع البحث لم تكن كماهي الآن بكل تأكيد، ولكنه لو كان مايزال حياً لرأى بعينيه ان تدني المنظومة الاخلاقية الاوربية الذي تحدث عنه جعل خمسة دول اوربية حاليا على قمة اكثر دول العالم أماناً وأقلها من حيث نسبة الجرائم وهي بالتسلسل: ايسلندا ونيوزيلاندا والبرتغال والنمسا والدنمارك، بينما وضع سمو أخلاقيات المجتمعات الاسلامية سوريا وافغانستان ضمن اعلى عشر دول في العالم من حيث نسبة الجرائم المرتكبة في مجتمعيهما الاسلاميين، حسب موقع Armormax . وتتربع الدول الاوربية على رأس قائمة اكثر الدول نزاهة واقلها فسادا ،حسب تصنيف التحالف العالمي لمكافحة الفساد، وعلى رأسها حسب التسلسل: نيوزيلاند والدنمارك وفنلاندا وسويسرا وسنغافورة والسويد والنرويج وهولندا...الخ . ويتذيل القائمة دول اسلامية كالصومال والسودان وسوريا واليمن وليبيا وافغانستان والعراق. ودعني اتبنى دور المؤلف وارد بالقول ان مايحصل للدول الاسلامية ليس بسبب اخلاق المسلم بل بسبب سياسات الحكومات غير الاسلامية او التي لاتحكم وفق الشريعة الاسلامية. ماذا أذا حول النظام الايراني الاسلامي الذي ساهم الصدر ببلورة فلسفته؟ وماذا حول نظام طالبان في افغانستان؟ وماذا حول حماس في الضفة الغربية؟ ألم تتبن هذه الانظمة نظرياتكم الاسلامية في الحكم والاقتصاد؟
من لم يسمع عن المجتمعات الاسلامية او لم يعش بين ظهرانيها ويقرأ تسبيح الصدر بحمد الانسان الشرقي الذي ربته رسالات السماء والذي ينظر الى السماء قبل ان ينظر الى الارض ويأخذ بعلم الغيب قبل المادة المحسوسة، يتخيل له ان المجتمع الاسلامي كله الحسين بن منصور الحلاج أو الجنيد البغدادي أو ابن عربي بينما تقول وقائع التاريخ الاسلامي ان المسلمين بدأوا التنازع على السلطة والجاه والمال حال وفاة الرسول (ص) . وشهدت الاربعة عقود الماضية إتخاذ غالبية رجال الدين الاسلامويين المعاصرين من رسالات السماء وسيلة لخداع اتباعهم من أجل كل ماهو مادي دنيوي محسوس.
ويجادل في صفحة 21 في ان افتتان المسلم العميق بعالم الغيب جعله يميل الى المناحي العقلية ( لعله أخذ مفردة "العقلية" من ترجمة خاطئة لمفردة mental ومعناها الادق في هذا السياق "معنوي" لان المقصود بها المضاد للمادي) من المعرفة على حساب المناحي التي ترتبط بالواقع المحسوس. وهو ،من حيث لايقصد، يعزو التخلف الاسلامي الى انشغال المسلم بالغيبيات والروحانيات على حساب العلوم المادية لانه أقل اهتماما بالدنيويات. وطبعا هكذا جدل يجافي الحقيقة لان المسلم انسان حاله حال اي انسان آخر على وجه الارض ، له غرائز ونزوات وتالياً نزوع الى الاستمتاع بالمادة وامتلاك مايستطيع امتلاكه منها، ولاتختلف مدى قدرته على كبح هذه الغرائز عن مدى قدرة الهندوسي او المسيحي، وعندما يتعرض لنفس الظروف تكون استجاباته مشابهة لاستجابات كل البشر، فالانثروبولوجيون يدرسون أنماط سلوك البشر ككائنات بيولوجية وتكوينها والمراحل التاريخية لتطور أنواعها لانها كائنات من نوع واحد تتطابق استجاباتها اذا ما تطابقت الظروف التي تتعرض لها، فلا يختلف في هذا المسلم عن البوذي او المسيحي او الملحد.
في تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات، لم يصنف العالم النفساني أبراهام ماسلو احتياجات الانسان على اساس دينه او نوعه الاجتماعي او ثقافته او عرقه، فأول اسبقية لدى أي انسان هي حاجته الفسيلوجيه من هواء وطعام وماء ونوم وجنس ثم تأتي حاجات الأمان والسلامة الجسدية، وكذا حتى اعلى الهرم المعروف. بكلمة اخرى، الانسان المسلم او الاسود او الابيض او الملحد او الصيني او الاندونيسي او الكندي أو العربي يفعل نفس الشيء ويسلك نفس السلوك الذي يسلكه أي انسان آخر لارضاء حاجياته وحسب اسبقياتها، فاخلاق المسلم وتعلقه بالسماء والغيبيات لاتمنعه من السرقة اذا كانت السبيل الوحيد لبقاءه على قيد الحياة، ولا تمنعه من قتل انسان آخر اذا تشاجرا على آخر رغيف خبز على الارض ، لذا فان اغنى المجتمعات (وليس أكثرها ايمانا بالسماء) أكثرها التزاما بالاخلاق وابعدها عن الجريمة والعكس صحيح.
يحاول الصدر تسويق الفكرة القائلة ان الاخلاق والقيم الاجتماعية النابعة من الغيبيات والايمان بما وراء الطبيعة هي من تقرر نجاح أو فشل اي نظام اقتصادي يتبناه شعب ما، بينما أثبتت نظرية المادية التاريخية لكارل ماركس وفريدريك انجل عكس هذا القول، إذ يجادلان بان النظام الاقتصادي هو الذي يعيد صياغة العلاقات الاجتماعية، وما الاخلاق والعلاقات الاجتماعية الاوربية المعاصرة التي ينعتها الصدر الا نتائج النظم الاقتصادية المتبناة في أوربا المسيحية. الجماعية والاستبداد والغيبيبات والتظاهر بالعفة وكبح الغرائز الجسدية وتكفير وحرق المفكرين والعلماء "الدنيويين" التي يمارسها الاسلامويون الآن في المجتمعات الاسلامية،والتي تستبطن كتابات الصدر الدعوة لها، كانت أهم اركان المنظومة القيمية والاخلاقية الاوربية المسيحية في القرون الوسطى، لكن النظم الاقتصادية الاوربية صهرتها واعادة سبكها وإذا بها أعظم منظومة قيمية وضعية ليس للانسان وحسب، بل للحيوان والنبات وحماية البيئة بشكل عام.
ثم يقول في نفس الصفحة "وهذه الغيبية العميقة في مزاج الانسان المسلم حددت من إغراء قوة المادة للانسان المسلم وقابليتها لاثارة الأمرالذي يتجه بالانسان في العالم الاسلامي حين يتجرد عن دوافع معنوية للتفاعل مع المادة واغرائه باستثمارها الى موقف سلبي تجاهها يتخذ شكل الزهد تارة والقناعة اخرى والكسل ثالثة."
لايعتمد المؤلف مناهج البحث المعاصر التي تعتمد التواريخ والحقائق والارقام والاحصاءات والاستطلاعات، وبالتالي فهو لايدعم جدلياته بأدله، ولاأدري كيف خلص الى القول ان الغيبية العميقة في مزاج الانسان المسلم حددت من إغراء قوة المادة له رغم تعارض هكذا استنتاج مع مايحصل في الدول الاسلامية ومايذهب اليه تقريبا جميع علماء الاجتماع والنفس والاقتصاد.
إذا ماتوفرت الفرصة للمادة لاغراء المسلم من خلال تبني دولة اسلامية لنظام الاقتصاد الحر الاوربي، وساعده هكذا نظام على ترجمة أوقات الفراغ الى مال، فسوف لن تراه يرتاد المقاهي أو يختلف الى اقرباءه واصدقاءه او ينفق جل وقته في تقديم التعازي وحضور الحفلات والمناسبات الاجتماعية الاخرى. بل لعله يقلص حتى زياراته الدورية للاضرحة المقدسة والجوامع، وقد يدفعه ولعه بجمع المال والتنافس مع اقرانه لامتلاك اغلى العقارات والسيارات واستهواء اجمل الفتيات وقضاء العطل في اجمل المرافق السياحية والمنتجعات، قد يدفعه حتى الى تقليص اوقات صلواته وشعائره الدينية -المستحبة منها على الاقل. وفي هذه الحالة لاتكون المادة قد نجحت في إغواء المسلم فحسب، بل يكون النظام الاقتصادي قد اعاد صياغة العلاقات الاجتماعية والمنظومة القيمية لديه وليس العكس.
وليس الايمان بالغيبيات وحده مايدفع الفرد المسلم الى الزهد أو القناعة أو الكسل، بل هناك أسباب أخرى أكثر تأثيرا من الايمان بالروحانيات منها ،كما أسلفنا، عدم وجود نظام اقتصادي يساعد المسلم على ترجمة اوقاته الى مال يساعده على اقتناء مايشتهي من المواد...نظام اقتصادي يحفزه ويثير في داخله روح المنافسة وحب التميز. وقد تكون القناعة آلية الدفاع لدى الانسان العاجز عن المنافسة وليس نتيجة لايمانه بالغيبيات ونبذه للماديات. الكسل الذي يعتقد الصدر ان المسلم يتميز به له اسبابه الاخرى أيضا أهمها السياسات الاقتصادية المتبعة في بعض الدول الاسلامية، العربية على وجه الخصوص، التي تمتلك ثروات طبيعية كالغاز والنفط. حَوَّل توزيع عائدات بيع هذه الثروات على الشعب الفرد المسلم الى مجرد كائن كسلان مستهلك فحسب. في العراق مثلا، تعين الحكومة اكثر من 40 بالمئة من الايدي العاملة وتنفق أكثر من خمسة مليارات دولار امريكي رواتبا ومحفزات وامتيازات لملايين الموظفين الحكوميين في مؤسسات مترهلة، وتوزع مواد الاعاشة مجانا على كل العراقيين، فلماذا لايكسل المسلم العراقي؟ وليس الوضع بافضل منه في الامارات او قطر او الكويت. لكن العامل او الموظف المسلم الفلسطيني او السوري او المغربي او التونسي او المصري أو الماليزي أو الاندونيسي أو الهندي أكثر انتاجية واقل قناعة وكسلا ذلك لان دولهم لاتمتلك الكثير من النفط والغاز وتاليا لاتغدق الحكومات عليهم من عائداتها، لذا يضطرون الى العمل الشاق ليل نهار لتوفير ضروريات العيش لهم ولعائلاتهم.
ثم يعرج المؤلف في نفس الصفحة أعلاه على فلسفتي الفردية والجماعية Individualism vs Collectivism ويتناول السياق النظري لنزوع الانسان الاوربي الى الفردية بالقدح ويتجاهل الايجابيات التطبيقية والاسباب التاريخية لهذا النزوع... الاسباب التاريخية التي أهمها معاناة الانسان الاوربي لقرون من الاضطهاد والتعسف بسبب الجماعية المسيحية. تأكد الانسان الاوربي بالتجربة ان كل ماكان يتخلى عنه من حرياته وحقوقه الفردية لصالح الجماعة يترجم الى قوة وجبروت تتركز في ايدي رجال الكنيسة وحكام الدول الاوربية المستبدين.
يعزو المؤلف وجود الفردية الاوربية الى الصراع والمنافسة اللذين يميزان الاقتصاد الحر، فيقول في تفضيل الجماعية " ونتيجة لشعور الانسان المسلم بتحديد داخلي يقوم على أساس أخلاقي لصالح الجماعة التي يعيش ضمنها يحس بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب اليها وانسجام بينه وبينها بدلا من فكرة الصراع التي سيطرت على الفكر الاوربي الحديث." هو يخلط هنا بين الفردية الاقتصادية والفردية الاجتماعية في المجتمعات الاوربية. الاوربيون اكتشفوا ان المنافسة هي أساس الانتاجية فحفزوها ثم نظموا قواعدها في نظمهم الاقتصادية، إنما الفردية الاجتماعية فهي تجسيد لنزوع الانسان الاوربي للتحرر من القيود الاجتماعية التي صادرت حرياته وحقوقه لصالح رئيس الجماعة: رئيس الدولة، رجل الدين، شيخ القبيلة، رئيس الحزب، رئيس المنظمة، وحتى الأب المتسلط. ترسخ الفردية الاجتماعية لدى الانسان الاوربي لم يجعل منه انسانا انانيا ترتكز اهتماماته على نفسه بالضد من الجماعة، بل أراد من خلال الفردية أن يمتلك الحرية في تقرير انتماءه الى الجماعة من عدمه وكمية الحقوق والحريات التي عليه التخلي عنها كفرد لصالح الجماعة وكيف ستستثمرها الجماعة.
الفردية لم تجعل من الانسان الاوربي فوضوي مصلحي، بل على العكس فهو يتحمل مسؤولياته تجاه الجماعة طوعياً ويتفاعل معها ويدافع عنها ويساهم في تطورها أكثر حتى من المسلم نفسه. ففي الدنمارك وفرنسا والنمسا يدفع المواطن اكثر من 55 بالمئة من دخله ضرائبا يذهب جلها لمساعدة العاطلين عن العمل والعاجزين والمنكوبين، وقسم منها يذهب لمساعدة شعوب متضررة في دول اخرى شعوب بعضها اسلامية. آلاف الاوربيين الاغنياء تبرعوا بثرواتهم لمنظمات تعنى بالمرضى او الاطفال او التعليم او حقوق الانسان . تكاد لاتخلو مدينة اوربية او امريكية من صرح أو مؤسسة خيرية او ترفيهية أو علمية تبرع بانشائها احد أغنياء المدينة، وإذا ماطلبت الشرطة مساعدة الناس لتتبع مجرم هارب، تخرج المدينة عن بكرة ابيها تحمل مصابيحا يدوية للبحث عنه ليلاً. يجمع الاوربيون ملايين الدولارات للمتضررين من الكوراث الطبيعية داخليا وخارجيا ويتدخلون شخصيا ليغيروا حتى لو بايديهم أي منكر يرون ولو كان ايذاء قط أو طير فما بالك بانسان!!! فقوانينهم أجازت لهم بالتدخل لمنع الاعتداءات.
تبرع الامريكي بيل كيت ب أكثر من 35 مليار دولار للمنظمات الصحية وتلك التي تحارب الفقر، وتبعه مواطنه وارن بفت ب 34 مليار دولار للصحة والتعليم وبحوث مرض الايدز، وتبرع الهنكاري جورج سورو ب 32 مليار دولار أيضا للمنظمات الصحية والمنظمات التي تعنى بحقوق الانسان والمؤسسات الاعلامية التي تكافح الفاشية. قائمة اكثر المتبرعين في العالم تضم 20 شخصا ليس بينهم مسلم واحد للاسف، فاين من هؤلاء شعور المسلم الاخلاقي تجاه الجماعة؟ أرجو ان لايُفهم ما أقول ان ليس هناك تبرعات او متبرعين في شعوبنا الاسلامية البتة، نعم هناك تبرعات لكنها خجولة ومتفرقة لاترتقي لكونها ثقافة تميز مجتمعاتنا. أضف الى انها تجسيد للروح الفردية لدى المسلم ،وليس الشعور الاخلاقي تجاه الجماعة،وذلك لان غاية المتبرع ثواب يوم الآخرة لنفسه وليس لمجتمعه، لذلك يتجسد جل تبرعات المسلمين في بناء الجوامع وليس مسكان الفقراء. وحتى أموال الخمس والزكاة ،التي لم يدفعها المسلم بقصد خدمة الجماعة بقدر ماهي إما خوفا من نار الله أو طمعا في جنته، تنتهي الى حسابات ابناء وبنات القائمين عليها من رجال الدين.