رغم أن مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيرانية لم تكن قد حُسمت بعد، فإنها باتت تواجه مصيراً أكثر غموضاً بسبب الموقف الروسي الجديد، الذي تقول الكثير من التقارير أنه يعرقل جهود التوصل إلى صفقة نووية جديدة بين إيران والغرب.
بعيداً عن التفاصيل، فإن إندلاع الأزمة الأوكرانية وما تلاها من فرض عقوبات غربية شديدة أستهدفت روسيا، قد أنتج حقائق جديدة على الأرض، منها وجود مصلحة أمريكية ـ غربية مؤكدة في خروج النفط الايراني من دائرة العقوبات الدولية، كي يسهم في طمأنة الأسواق وخفض أسعار برميل النفط الذي بلغ معدلات قياسية ويتوقع له مواصلة الإرتفاع في حال استمرار الظروف الدولية الراهنة.
على عكس ذلك تماماً، تأتي رغبة روسيا، التي تمتلك مصلحة مؤكدة في إستمرار إرتفاع أسعار النفط ليس فقط لإستنزاف أموال المستهلكين الغربيين وبالتالي وضع حكوماتهم في ظروف بالغة الحرج، فضلاً عن أن إرتفاع الأسعار يمكن أن يعوض بعضاً من خسائر الإقتصاد الروسي سواء فيما يتعلق بميزانية الحرب الدائرة في أوكرانيا، أو بسبب العقوبات الغربية القاسية التي اتخذت ضد روسيا.
المعنى هنا أن إيران وروسيا أصبحتا للمرة الأولى على طرفي نقيض، وتضاربت مصالح الحليفين بشكل لم يكن متخيلاً منذ أشهر قلائل، ما يثير تساؤلات جوهرية حول تأثير هذا التضارب، وهل يدفع علاقات طهران وموسكو للتوتر أم سيتم احتواء هذا الموقف بشكل أو بآخر؟
الحقيقة ان الكرملين يعيش فترة توتر سياسي صعبة، ولا نعتقد أن هناك هامش كبير للتسامح أو التساهل مع أي مواقف تضر بروسيا التي وضعت البيض كله في السلة الأوكرانية، بحيث تحولت هذه الأزمة إلى رهان على مستقبل روسيا ليس فقط كقطب عالمي، ولكنه يطال أيضاً استقرارها بل وعودتها إلى مرحلة ماقبل حرب أوكرانيا.
بلا شك أيضاً فإنه لا يمكن بأي حال ـ في ظل الفوارق الكمية بين القدرات الإنتاجية والتصديرية لكل من روسيا وإيران ـ القول بامكانية تعويض نقص الإمدادات الروسية، سواء من خلال حظر الواردات أو من خلال أي آليات أخرى، من خلال صادرات النفط الإيراني تحديداً لأسباب وإعتبارات عدة منها محدودية هذه الصادرات، التي لا تزيد حالياً عن 600 ألف برميل يومياً في ظل العقوبات يمكن أن تزيد تدريجياً في حال رفع العقوبات المفروضة على شراء النفط الإيراني، وقد تصل بعد فترة ليست معروفة إلى سقف الصادرات النفطية الايرانية قبل انسحاب إدارة الرئيس السابق ترامب مع الاتفاق النووي، وهو 5ر3 ملايين برميل نفط يومياً.
ثمة معضلة أخرى تتعلق ربما بالمبالغة في قدرة صادرات النفط الايراني على استعادة التوازن للأسواق في ظل غياب إمدادات النفط الروسية، والمقصود هنا أن الرهان على النفط الايراني ينطلق من فرضية غيابه عن الأسواق، وهذه فرضية ليست دقيقة بالمرة سواء في ظل عمليات التهريب التي لم تنقطع، فضلاً عن افتراض العودة السريعة لهذه الصادرات للأسواق، ولكن هذا لا ينفي بالمقابل امكانية تهدئة الأسواق نسبياً.
المسألة إذاً لا تتعلق يإيران، ولكنها ترتبط أساساً بمكانة روسيا في أسواق الطاقة الدولية، فهي المنتج الثاني عالمياً للنفط الخام بنسبة نحو 14%، وستون بالمائة من صادراتها تتجه لأوروبا، وهي نسبة تمثل نحو ثلث احتياجات الدول الأوروبية من النفط، وإذا كان الخبراء يعتقدون أن المنتجين الأول والثالث (السعودية والإمارات) للنفط عالمياً من الصعب أن يحلا محل روسيا في الأسواق الأوروبية بشكل سريع (نظرا لارتباط المنتجين بتعاقدات مع المستوردين) فمن باب أولى ألا تستطيع إيران تعويض النفط الروسي بأي حال خلال المدى القريب على الأقل، وبالتالي فإن أي زيادة في المعروض النفطي سينحصر أثرها في خفض الأسعار بنسب ترتبط بالمتغيرات التقليدية التي تتحكم في المنحنى السعري.
المؤكد في هذا كله أن للغرب وطهران معاً مصلحة آنية في إستعادة صادرات النفط الإيراني للأسواق، كما أن لإيران أيضاً مصلحة في الحذر من إستمرار تعاملاتها التجارية مع روسيا في حال رفع العقوبات عن الأولى واستمرارها على الثانية، خشية التعرض لعقوبات غربية جديدة، ولو أستمر الحال على ماهو عليه، فإن التوجه الايراني ـ الروسي نحو توقيع إتفاقية شراكة إستراتيجية قد يدخل نفق الجمود.
في مقابل ماسبق، من الصعب أيضاً أن تجازف إيران بخسارة علاقاتها القوية مع روسيا، لاسيما في ظل ترابط المصالح القائم في سوريا وأفغانستان وجنوب القوقاز، ناهيك عن صعوبة تخلص طهران من الشكوك التي تخيم على علاقاتها مع الغرب مهما كانت الإغراءات الظاهرية؛ صحيح أن روسيا قد أربكت الشوط الأخير في جولات التفاوض الماراثونية المنعقدة في فيينا، بطلب ضمانات أمريكية مكتوبة بأن العقوبات المفروضة عليها بسبب حربها في أوكرانيا لن تعرقل تجارتها واستثماراتها وتعاونها العسكري التقني مع إيران، ورغم رفض طهران قبول "املاءات أجنبية"، وطلبها رسمياً "إيضاحات" من موسكو بهذا الشأن، فإن الأمر ليس بالبساطة التي يمكن معها القطع بأن إيران ستنجرف إلى صدام مع روسيا لهذا السبب، حيث تحرص إيران ـ حتى الآن ـ على عدم الإشارة لموسكو علناً في سياق مايوصف بـ"تعطيل" المفاوضات، بل تتمسك بتحميل الجانب الأمريكي مسؤولية هذا الوضع، واكتفت بتسريب تصريحات نسبت لمسؤول إيراني كبير وصف الخطوة الروسية بـ" غير البناءة".
الخلاصة أن دخول مطالب روسيا على خط الجولة الأخيرة لمفاوضات فيينا، قد يغضب إيران، وربما يرجىء التوصل إلى صفقة لإحياء الاتفاق النووي، ولكن لن يدفع طهران للمجازفة بخسارة تحالفها مع موسكو بحسب اعتقاد بعض الأوساط الغربية، ليس فقط لقناعة المرشد الأعلى خامنئي بجدوى مواصلة إستراتيجية التوجه نحو الشرق (الصين وروسيا) ولكن أيضاً لأن الأزمة الأوكرانية لم تكشف عن معظم تداعياتها الاستراتيجية بعد.
- آخر تحديث :
التعليقات