الحديث عن إرهاصات لظهور نظام عالمي جديد ليست جديدة، بل بدأت منذ سنوات مضت، وتزايدت بعد تفشي وباء "كورونا" حيث بات الحديث عن عالم مابعد الوباء قيد البحث في معاهد الدراسات الاستراتيجية بمختلف ارجاء العالم، ولكن التوقعات كانت تميل ـ في معظمها ـ إلى ما يمكن اعتباره تشكّل تدريجي لقواعد هذا النظام وتوازناته وموقع القوى الدولية الكبرى فيه بموجب التفاعلات الإستراتيجية الكبرى التي تخضع لها العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة. ولكن ماحدث أن أزمة أوكرانيا جاءت لتعجل بتشكيل قواعد النظام العالمي الجديد بل وتضيف عناصر نوعية مؤثرة لآلياته بدخول روسيا على خط الصراع القطبي بقوة أكبر مما كان متوقعاً أو مخططاً لها.

رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير قال قبل وقوع الحرب في أوكرانيا إن روسيا شرعت في "تقويض" الهيكل الأمني الأوروبي وهي تقوم "بمحاولة صارخة لإعادة كتابة قواعد النظام العالمي". وقالت لاين خلال مؤتمر ميونيخ للأمن: "لا يمكننا السماح بحدوث ذلك، نحن نواجه محاولة صارخة لإعادة كتابة قواعد النظام العالمي". كما ندّدت بتحالف روسي-صيني يسعى لفرض "قانون الأقوى"، ولكن ماحدث بالفعل أن أكثر ما يخشاه حلفاء الأطلسي قد وقع بالفعل وأن أوكرانيا شهدت أكبر انتشار لقوات على الأراضي الأوروبية منذ "أسوأ أيام الحرب الباردة"، وأن حلف الأطلسي بات يواجه تحدياً صينياً ـ روسياً وصريحاً ومباشراً ومطالبة مشتركة للمرة الأولى بعدم قبول أي أعضاء جدد.

في الواقع فإن مايحدث في أوكرانيا لا يتعلق فقط باستعادة النفوذ الروسي السابق في هذا البلد، بل يرتبط بالأساس بإعادة التموضع الاستراتيجي الروسي في مرحلة إعادة تشكّل النظام العالمي، ومن ثم رغبة موسكو في إنتزاع مكانة دولية تتناسب مع قوتها ودورها ونفوذها المتنامي. صحيح أن روسيا قد تعاني جراء العقوبات الإقتصادية التي ستفرض عليها من الغرب، ولكنها بالتأكيد وصلت إلى قناعة بأن تكلفة خوض هذه الحرب أقل ـ استراتيجياً ـ مما تعتبره خضوعاً للشروط الغربية رغم كل التقديرات التي تشير إلى كلفة باهظة للغزو الروسي لأوكرانيا، ولكن يبدو أن الحسابات الأمنية الإستراتيجية للكرملين تفوق أي حسابات تتعلق بالإقتصاد والتجارة وغير ذلك.

اعتقد أنه من الصعب حاليا القفز إلى إستنتاجات مبكرة بشأن مسارات الأزمة وتداعياتها الإستراتيجية المحتملة خلال المستقبل المنظور، لسبب مهم وهو أن اللاعب الرئيسي فيها وهو الرئيس بوتين يصعب توقع خطوته المقبلة، لاسيما أنه قد أجتاز المرحلة الأصعب فيها وهي العملية العسكرية في أوكرانيا، والتي تمثل خطاً فاصلاً بين مرحلتين تاريخيتين، حيث اقدم على الغزو رغم أن المعطيات تختلف تماماً عن أزمة شبه جزيرة القرم عام 2014، حيث بدا الغرب هذه المرة أكثر تماسكاً ووحدة، رغم تردد ألمانيا وفرنسا وميلهما الواضح لتفادي التصعيد مع روسيا.

يجب أن نتذكر جميعاً أن الرئيس بوتين سبق له أن أختبر إرادة الغرب سواء في عامي 2008 (جورجيا) و 2014 (شبه جزيرة القرم) ، ناهيك عن دور روسيا في الأزمة السورية ومناطق أخرى عديدة، بحيث يبدو الموقف برمته استنساخ لسيناريو سابق وما أشبه الليلة بالبارحة، حيث تتكرر نفس الإنتقادات وربما نفس المفردات، بما فيها ما يتعلق بالهجوم على القيم الأوروبية، ولكن الواقع أن شبه جزيرة القرم تحولت إلى وضعية تشبه مشكلة شمال قبرص، لا أحد يعترف بما فعلته روسيا ولكن لا أحد يتحدث أيضاً، كما أن الرئيس بوتين نفسه أكثر دراية بردة الفعل الأمريكي المتوقعة مقارنة بالموقف الأوكراني الذي راهن كثيراً عن وضع الغرب في مواجهة روسيا، رغم كل الشواهد التي توحي بعكس ذلك، أو على الأقل صعوبة تحققه، ولاسيما من الجانبين الفرنسي والألماني. وبالتالي استنسخ الرئيس بوتين سيناريو جورجيا 2008 في أوكرانيا، مع وجود دافعية أكبر بالنظر إلى ثروات الأخيرة مقارنة بجورجيا، حيث تحتل أوكرانيا المرتبة الأولى في أوروبا من حيث احتياطيات اليورانيوم والثانية في التيتانيوم، والثانية عالمياً في احتياطيات المعادن الاستراتيجية مثل المنجنيز والحديد والزئبق، ناهيك عن قدراتها الزراعية الهائلة باعتبارها الأراضي الأخصب في العالم، وتنتج من القمح والذرة والشعير ما يكفي نحو 600 مليون شخص أي أكثر من مجموع سكان دول الاتحاد الأوروبي تقريباً.

ولعل أكثر ماحصل عليه الرئيس بوتين بسرعة في هذه الأزمة هو كشف حدود القوة الأمريكية للعالم أجمع، بما يؤثر حتماً في مستوى الإعتمادية على واشنطن من جانب حلفائها وشركائها في مختلف المناطق، واعتقد أن هذا الأمر كان يمثل رافعة إستراتيجية جوهرية لقراره بِشأن غزو أوكرانيا، حيث تعاني إدارة الرئيس بايدن في ايجاد خيارات بديلة لردع روسيا، وافتقرت حتى لورقة التلويح بالقوة العسكرية لأسباب لا تتعلق ـ كما يتردد ـ بشخصية الرئيس بايدن، بل تعود بالأساس إلى الأزمات والتحديات الكبرى التي تواجه إستمرارية الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي، وزاد عليها الإنقسامات الحزبية الداخلية الحادة التي تعانيها الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، فضلاً عن تداعيات أزمة "كورونا" وصعود الصين المتسارع، ما يضع البيت الأبيض على المحك ويجعل من الصعب للغاية التورط في مواجهة عسكرية قد تعجل بنهاية النفوذ الأمريكي، أو تفتح الباب أمام وقوع المزيد من الخسائر، مثل تشجيع الصين على استعادة تايوان، وفتح المجال أمام دول أخرى ـ مثل إيران ـ للانخراط في الصراع وفرض تحديات أخطر على صانع القرار الأمريكي.

أعتقد أن كل المؤشرات ـ بما فيها الأزمات المحتدمة كتايوان وأوكرانيا ـ تؤكد أن هناك سباق عالمي متزايد نحو ملء الفراغ الإستراتيجي الناجم عن تراجع الدور الأمريكي، والأمر هنا لا يقتصر على روسيا التي لم تفتتح السباق ولكنها تسعى بقوة لتصدره، بل يشمل قوى إقليمية ودولية أخرى عديدة، بما يدفع للقول بأن توازنات القوى العالمية تتغير بوتيرة متسارعة وأن الجميع يسعى لحجز موقعه في نظام عالمي جديد بعد عقود من الهيمنة الأمريكية العالمية.