لاشك أن الإستعانة بالمرتزقة في الحروب لها جذور عميقة في التاريخ الإنساني، فالمرتزقة عرفوا عبر العصور، ويمثلون ظاهرة عابرة للتاريخ والجغرافياً، وتراجع دورهم في معظم فترات العصر الحديث وتحديداً منذ ظهور الدولة بمفهومها الحديث بحسب "صلح وستفاليا" (1648) وبناء الجيوش الوطنية.

ولكن الظاهرة عادت لتطل برأسها بقوة منذ نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، حيث شارك مايعرف بالمقاتلين الأجانب في حروب وصراعات عدة آخرها الحرب الدائرة في أوكرانيا، حيث تشير التقارير إلى آلاف المقاتلين القادمين من سوريا والشيشان وأمريكا وافريقيا وأوروبا لينخرطوا إلى جانب القوات الروسية التي تسمح رسميا لـ"المتطوعين" الأجانب بالقتال، أو المشاركة إلى جانب الأوكرانية في إطار مايعرف بالفيلق الدولي.

لا تخلو مسألة المرتزقة أو المقاتلين الأجانب من مفارقات، فالإعلام الغربي على سبيل المثال يقول إن هناك "متطوعين " يخوضون معركة "الخير ضد الشر"، والحكومات الغربية تتبنى مصطلح "المتطوعين" لوصف أولئك الذين ينضمون إلى الجانب الأوكراني، بينما تطلق مصطلح "المرتزقة" على أولئك الذين يقاتلون إلى جانب القوات الروسية.

الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بادر في السابع والعشرين من فبراير الماضي بالاعلان عن تشكيل فيلق دفاع إقليمي أجنبي وأعفى المرتزقة من تأشيرة الدخول لبلاده، ووعدوا بالحصول على مبالغ سخية، وسمحت دول أوروبية عدة مثل بريطانيا والدنمارك ولاتفيا وبولندا وكرواتيا لمواطنيها بالمشاركة في الأعمال القتالية على أراضي أوكرانيا، كما تطوع مقاتلو ما يسمى بجيش تحرير كوسوفو، والذي يعد منظمة إرهابية حتى في الولايات المتحدة، لمساعدة الرئيس الأوكراني

وعلى الجانب الروسي تحدث وزير الدفاع سيرجي شويغو عن إستعداد ستة عشر ألف مقاتل من الشرق الأوسط للقتال في صفوف الجيش الروسي في أوكرانيا، وأن الرئيس بوتين اعطى أوامر بالسماح لهؤلاء بالمشاركة في الحرب الجارية!

البعض يقول أن إستخدام المرتزقة يمثل بديلاً لعدم جاهزية الجيوش النظامية على خوض حروب العصابات والمدن والشوارع، كما يمثل أيضاً مخرجاً من أي حرج في حال زيادة أعداد القتلى لأن المرتزقة لا يشار إلى أعداد ضحاياهم باعتبارهم عناصر مجهولة في أغلب الأحوال، أو هكذا يتم التعامل معهم.

المرتزقة او المقاتلين الأجانب يقاتلون لأسباب مختلفة، أهمها الحصول على الأموال، لذا فإن من الخطورة بمكان السماح لهذه الظاهرة المخالفة للقانون الدولي بالتنامي والتزايد لأن هذه العناصر يمكن أن تتسب في نشر الفوضي والإضطرابات في الدول التي تشارك في القتال بها، أو تنتقل عبر الحدود إلى دول أخرى للبحث عن فرص للقتل من أجل المال!

من المؤكد أن ظاهرة المرتزقة أو المقاتلين الأجانب لن تسهم في تراجع دور الجيوش النظامية الوطنية، لأسباب واعتبارات تتعلق بالهوية وفلسفة العمل وضمان المصالح الوطنية والحفاظ على سيادة الدول بعيداً عن الإنتهاكات والتجاوزات والممارسات المسيئة الأخرى التي تتورط فيها عصابات المرتزقة التي تعمل في كثير من الأحوال خارج نطاق القانون، على عكس الجيوش النظامية للدول التي تعمل بموجب قواعد اشتباك وفي إطار القيم والمبادىء التي تحكم سياسات وتوجهات الدول التابعة لها.
المعضلة في تنامي الإعتماد على المقاتلين الأجانب او المرتزقة أنها تعكس رؤية ضيقة للمصالح لا تأخذ بالإعتبار توابع هذه العناصر ولا تجيب على سؤال ماذا بعد مرحلة الصراع وإلى أين يذهب هؤلاء؟

والمؤكد أن تحول القتال إلى مصدر للإرتزاق يعني مزيداً من الفوضى والعنف وغياب الإستقرار في مناطق شتى من العالم، ويوفر لتنظيمات الإرهاب مخزون بشري كبير يمكن لها الإستعانة به في تنفيذ عملياتها الإجرامية أو تدريب عناصرها ونقل الخبرات التي اكتسبها هؤلاء المرتزقة في ميادين قتال مختلفة إلى العناصر الإرهابية.

في سوريا على سبيل المثال، تحول هذا البلد العربي العريق إلى مستودع ضخم لمرتزقة حيث تستعين أطراف دولية و إقليمية عدة بخدمات هؤلاء في حروب وصراعات كالتي دارت في ليبيا وأوكرانيا وغيرهما، وإذا كانت الدول التي توجه الدعوة لهؤلاء المقاتلين الأجانب لدخول أراضيها من دون تأشيرات أو حتى جوازات سفر مثلما يحدث في أوكرانيا حالياً ترى لهؤلاء دوراً في دعم مقاومتها، فإن مايمكن أن يتسبب به وجود هذه العناصر ـ بافتراض انتهاء القتال ـ ينطوي على خسائر أكبر على المدى البعيد.

اللافت أن كل الدعوات والخطط الخاصة بالإستعانة بالمرتزقة في أوكرانيا تحديداً تمضي تحت أنظار القانون الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، ما يمثل تعارضاً مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2178 الصادر في سبتمبر عام 2014، والذي ينص على أنه "يقرر أن بالنسبة للمقاتلين الإرهابيين على الدول الأعضاء منع وقمع تجنيد أو تنظيم أو نقل أو تجهيزهم، وكذلك منع وقمع تمويل أو سفر هؤلاء الأفراد. يعرب عن تصميمه القوي للنظر في أن يدرج في القائمة اسماء الأفراد بموجب القرار 2161 (2014).

ويطلب إلى فريق الرصد أن يقدم تقريراً إلى اللجنة عن آخر المستجدات المتعلقة بالتهديد الذي يشكله المقاتلون الإرهابيون الأجانب الذين جندهم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وجبهة النصرة وكافة الجماعات والمؤسسات والكيانات المرتبطة بتنظيم القاعدة أو الذين أنضموا إلى صفوفها"، رغم أن القرار يتعلق بتنظيمات الإرهاب فإنه ينطبق على مجمل الظاهرة ويتسع تفسيره ليشملها.

والأخطر من ذلك أن إنتهاك القانون الدولي في هذا الشأن لم يقتصر على طرف معين بل يشمل دولاً عدة فتحت الباب علناً لما قيل أنه تطوع للإنخراط في الصراع الدائر في أوكرانيا رغم اقتران التطوع المشار إليه بوعود مالية سخية علنية بما ينافي مفهوم التطوع ويضع الأمر كله تحت طائلة القانون الدولي. ومن المعروف أن هناك إتفاقية دولية لمناهضة تجنيد المرتزقة وإستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، وقد عرفّت الاتفاقية "المرتزق" بأنه "أي شخص يجند خصيصاً محلياً أو في الخارج للقتال في نزاع مسلح، ويكون دافعه الأساسي للإشتراك في الأعمال العدائية هو الرغبة في تحقيق مغنم شخصي ويٌبذل له فعلاً من قبل طرف في النزاع أو باسم هذا الطرف وعد بمكافأة مادية، ولا يكون من رعايا طرف في النزاع ولا من المقيمين في إقليم خاضع لسيطرة طرف في النزاع.

ولأن الإتفاقية قد ربطت مفهوم المرتزق بالاستفادة المادية، فإن مايجري حالياً يتم في معظمه تحت مسمى "التطوع" لتفادي الإصطدام بالقانون الدولي، رغم أن معظم هذه الحالات تخالف هذا القانون قلباً وقالباً، ولن تؤدي سوى إلى مزيد من الفوضى والعنف والإضطرابات حتى بعد التوصل إلى تسوية لانهاء الصراع رسمياً.