حينما سمعت بخبر غزو بوتين لأوكرانيا عبر نشرات الأخبار، وما سبقه من تبريرات ورافقه من بروبغندا، عادت بي الذاكرة فوراً الى التمثيلية السخيفة الإخراج التي عشناها عام 1990، عن "الفتية الذين آمنوا بربهم، وذهبوا لشراء طقم دشاديش وعقل بيضاء من الأسواق المركزية، وإرتدوها أمام شاشات التلفاز، ثم طلبوا من العراق أن يضم الفرع الى الأصل، لتنتهي قصتهم بأن عاشوا عيشة تعيسة في أم المهالك"، وكتبت ذلك على مواقع التواصل الإجتماعي. فما قام به بوتين مع أوكرانيا، يشبه الى حد كبير ما قام به صدام مع الكويت، مع إختلافات بسيطة، إلا أن أوجه الشبه بين الجريمتين أكثر بكثير. حتى رد الفعل عليهما كان متشابهاً في سرعته وقوته، وهو أمر متوقع. الإختلاف بين الحالتين هو فقط بموقف أغلب المثقفين الروس، الذي كان مُشَرِّفاً، بوقوفهم ضد غزو جيش بلادهم لأوكرانيا رغم قمع نظام بوتين لهم، في حين كان موقف أغلب المثقفين العراقيين مُخجِل مؤيداً لغزو الكويت، بل ولا زال بعضهم يبرره لأسباب مخجلة، رغم أن صدام وعزة الدوري إعتذروا عنه بلسانهم! وهو ما يعكس طبيعة الشخصية العراقية المأزومة التي تتجاوز بتشوهها حتى حكامها الدكتاتوريين المأزوين أحياناً، ويؤكد ما نقوله دائماً مِن أنهم إفراز لها ولتشوهاتها، وليس العكس، كما يروج أغلب المثقفين، ليَرموا بمسؤولية خراب أوطانهم وإنهيار دولهم وتخلف شعوبها على حكامهم، ويُبرِّئوا أنفسهم ومجتمعاتهم منها.

يبدو أن بوتين كصدام، باتت به لوثة جنون عظمة بعد سنوات من جبروت السلطة، لم تكن موجودة به قبلها، أو كانت موجودة لكن لم تظهر سوى حينما توَفّر لها الظرف المناسب، رغم أن بعض بوادرها قد بدأت تظهر خلال السنوات الأخيرة من خلال بعض تصرفاته، فغزوه لمدينة أوسيتيا الجورجية وإعلانها دولة من جانبه فقط وتنصيب دمية تابع له رئيساً لها رغم أنف المجتمع الدولي لم يحدث البارحة بل عام 2008! ودعمه لبشار الأسد في قمعه لشعبه بوحشية منذ عام 2011 وإرسال قواته وطائراته وجنرالاته لمساعدته في ذلك ودورهم المباشر بتنفيذ المجازر التي حدثت هناك لم يكن سراً يخفيه هو أو بشار، وفي الوقت الذي تم إعتبار بشار مجرم حرب من قبل أغلب حكومات العالم، تغاضى هذا العالم عن كون بوتين هو المحرك الاساسي له، حتى دون ستار!

كما نجح صدام في خداع الداخل قبل الخارج في السبعينات والثمانينات، فقد نجح بوتين في ذلك حتى الامس القريب، وكما إستطاع صدام أن يُبَرّر أفعاله ويضمن سكوت المجتمع الدولي عنها قبل غزوه للكويت، فقد إستطاع بوتين أن يُبَرّر افعاله في جورجيا والقرم وسوريا ويضمن سكوت المجتمع الدولي عنها حتى غزوه لأوكرانيا. وكما لم يحسب صدام تبعات غزو الكويت وظن أن الكويتيين سيستقبلون قواته الغازية بالورود وإعتبرها نزهة عادت عليه كنغصة تسببت بنهايته، يبدو أن بوتين لم يحسب تبعات غزوه لاوكرانيا وأخطأ في تقديراته وتوقع أن يخرج الأوكرانيين الى الشوارع ليستقبلوا قواته الغازية وظنها نزهة يبدو بأنها ستكون نغصة. وكما أن التحالف الدولي الذي قام بتحرير الكويت وقرار العقوبات التي تلته لم يكن مسبوقاً، فإن التحالف الدولي الذي يُدين اليوم الغزو الروسي، والذي تجسد في التصويت الكاسح لقرار إدانته في الأمم المتحدة، وقرار العقوبات التي فرضت على نظام بوتين ليس مسبوقاً ولم يتخيله بوتين أو لم يكن ينتظره بهذه الشدة.

أغلب الظن هو أن بوتين قد توقع كدكتاتور أرعن أن يمُر غزو اوكرانيا كما مَرّت غزوات استونيا والقرم، دون أن يوقفها أو يحاسبه عليها أحد، وفكر بطريقة الأنظمة الدكتاتورية الغارقة في المحسوبية، بأن علاقات وسُمعة عَرّاب سياساته وسمسار تجارته في المانيا المستشارالسابق غيرهارد شرودر، أو صداقته بالمستشارة السابقة ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون، ستضمن سكوت أكبر دولتين في أوروبا على فعلته، متناسياً بأن هذه الدول تحكمها مؤسسات لا أفراد. أغلب الظن هو أن بوتين قد قال لنفسه سأغزو أوكرانيا، ولن يحدث شيء سوى قرقعة بيانات، وقد توقع الكثيرون ذلك، لكن بعد يومين بدأت قرقعة السلاح المُرسَل الى أوكرانيا تُسمَع من كل أوروبا، تلتها فوراً قرقعة العقوبات الإقتصادية التي دخلت حيّز التنفيذ وآتت ثمارها عليه وعلى نظامه سريعاً، ثم قرقعة بيان الأمم المتحدة بإدانة الغزو الذي صَوّتت عليه دول المجلس بالإجماع الى جانب أقلية ممتنعة، وهذه قواته تعجز ليس فقط عن دخول كيبف، بل وعن تحقيق أي نصر حقيقي على الأرض بفضل المقاومة الباسلة للشعب الأوكراني، أللهم إلا إذا كان يعتبر تدمير قواته للمدن ببيوتها ومستشفياتها ومدارسها ومسارحها، ثم إحتلالها كأرض محروقة، كما فعل مع مدينة ماريوبول، نصراً له؟

حينما غزا هتلر التشيك ثم بولندا في عام 1939، تواطأت معه روسيا، وسكت عنه الأوروبيون، وترددوا بصَدِّه وتحجيمه. وبعد سنوات، بات يمطر لندن بالقنابل، وأصبح في عقر باريس، وعلى أبواب ستالينغراد. واذا سكتوا اليوم على بوتين، وترددوا بصده وتحجيمه في أوكرانيا، كما سكتوا قبل سنوات على دعمه نظام الأسد في سوريا، وإحتلاله لشبه جزيرة القرم الأوكرانية ومدينة أوسيتيا الجورجية. سيجدونه بعد سنوات على حدودهم، أو في عقر عواصمهم، وها هو بالفعل قد بدأ بتهديد مولدافيا، وهو لم ينتهي بعد من أوكرانيا، مسوقاً نفس الحجج الواهية التي إستخدمها ضد أوكرانيا، وليس غريباً أن يستمر في التوسع جنوباً وغرباً وشمالاً، لتحقيق هلوساته بإعادة إمبريالية الإتحاد السوفيتي ليدخل التأريخ كأحد غزاته قبل رحيله، خصوصاً مع توارد أخبار تتحدث عن تدهور حالته الصحية. طبعا إنهاء غزو بوتين لأوكرانيا وتحريرها من قواته، لا يمكن أن يتم بنفس طريقة إنهاء غزو هتلر لأوروبا أو صدام للكويت وتحريرها من قواته، لأن الظروف مختلفة. فإستخدام طريقة إنهاء هتلر سيتسبب بلا شك في إندلاع حرب عالمية ثالثة قد تُدَمِّر العالم. كما لا يمكن أن ننتظر إستسلام بوتين على شاكلة صدام على طريقة خيمة صفوان لأسباب عديدة، أهمها ترسانته النووية التي ما زال يمكنه أن يُراوغ ويُناوِر بها. خطورة بوتين تتمثل بأنه يشبه هتلر في أحلامه التوسعية بأمّة تتخطى حدود دولتها، فهو يسعى وبوضوح لإحياء الإمبريالية السوفيتية وإعادة الروح الى كيانها الهجين الذي أذاق روسيا ودول أوروبا الشرقية الذل والهوان لعقود. لذا كلما تأخر الغرب والعالم في تحجيمه وتأديبه، هو ومن يسانده من حكومات المختلين المارقة، كلما تضاعفت الكلفة التي سيدفعها الغرب والعالم مستقبلاً لإيقافه عند حده وإصلاح ما سيحدثه من دمار.

لو كان بوتين قد إستمع لأصوات العقل التي كانت تطالبه بالتوقف، وأمر قواته بالتراجع قبل قصف المدن وتهجير وقتل سكانها وتدمير بناها التحتية، فلربما كان أبقى لبعض حكام الغرب الذين تربطهم معه علاقات جيدة فرصة في إعادة تأهيليه، أو حتى تنظيم خروج مشرف له من الحرب والسلطة. لكن إندفاعه المسعور، وإستمراره في جرائمه بحق السكان الآمنين، حولته الى مجرم حرب لا يمكن السماح ببقاءه حاكماً لواحدة من أكبر دول العالم، والمحاذية للإتحاد الأوروبي، ولا بد من محاسبته وقلب صفحته لتبقى درساً تتعلم منه الأجيال، سواء بسرعة كما فعلوا مع هتلر، وهو أمر يتحاشاه المجتمع الدولي على الأغلب تجنباً لإندلاع حرب عالمية ثالثة يدفع إليها ويتمناها بوتين، أو بتركه يطبخ على نار العزلة والعقوبات الدولية الهادئة حتى يستوي، كما فعلوا مع صدام بعد غزوه للكويت وحتى سقوط نظامه وأسره وإعدامه بعد 2003.

[email protected]