بعيداً عن تفكير الجانب الروسي بشأن سير العمليات العسكرية الحالية في أوكرانيا، فإن هناك مؤشرات تعكس التحول الحاصل في الرؤية الغربية لهذه الأزمة، والأمر هنا لا يقتصر على الدعم العسكري المباشر لأوكرانيا، بل يطال أيضاً المواقف السياسية والقوانين والتشريعات الغربية اللازمة لإدارة هذه الأزمة، وفي مقدمة ذلك يأتي القانون الخاص الذي أقره الكونجرس الأمريكي مؤخراً بهدف تسريع المساعدات المقدمة لأوكرانيا، وهو تشريع قديم/ جديد يعود لثماني عقود مضت، حيث سبق إعتماد نسخته الأولى في خلال الحرب العالمية الثانية في الاربعينيات من القرن العشرين لمواجهة هتلر. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن مجلس النواب الأمريكي قد وافق على هذا القانون المسمى بقانون "الإعارة والايجار للدفاع عن الديمقراطية في أوكرانيا لعام 2022" بأغلبية 417 عضواً مقابل رفض 10 أصوات فقط، بعد إقراره من مجلس الشيوخ بالإجماع، ويعيد هذا التشريع إحياء برنامج يسمح للولايات المتحدة بإعارة أو تأجير عتاد عسكري لحلفائها، ويمكن استخدامه في مساعدة الدول الواقعة شرق أوروبا، التي تشعر بالتهديد الروسي، فضلا عن أوكرانيا، ويسمح للشركات الأمريكية بإعادة تزويد الدول الشريكة بالإمدادات بسرعة دون المرور بالعقبات البيروقراطية، مع إمكانية الدفع المؤجل. ويمثل هذا القانون الغطاء لتقديم نحو 33 مليار إضافية لأوكرانيا طلبها البيت الأبيض، وتتضمن أكثر من 20 مليار دولار للأسلحة والذخيرة والمساعدات العسكرية الأخرى، وتضاف إلى المساعدات الأوروبية الضخمة ومخرجات مؤتمر المانحين الدوليين التي تبلغ نحو 7 مليارات دولار، وينظر المراقبون إلى هذا التشريع باعتباره انخراطاً رسمياً أمريكياً في الحرب رغم الحياد الرسمي المعلن، بينما يعتبره آخرون انعكاساً لإستراتيجية أمريكية تستهدف هزيمة روسيا في إطار حرب بالوكالة.

الواضح من خلال متابعة الأدبيات المنشورة في الغرب أن هناك قناعات تتشكل حول مايعتبره الخبراء هناك ضرورة حتمية لهزيمة روسيا، حيث يعتبر البعض الحرب الدائرة في أوكرانيا بمنزلة تحد وفرصة للدفاع الحضارة الليبرالية الغربية، وأن كل الخسائر الفعلية والمحتملة لأوروبا لا توازي الانتصار فيما يعتبره هؤلاء "قضية أكبر بكثير"، ونشير هنا ـ على سبيل المثال ـ إلى عنوان افتتاحية نشرتها صحيفة "الاندبندنت" البريطانية "مثل النازيين الحقيقيين في الماضي.. يجب ألا تنتصر روسيا"، ورأت الصحيفة أن القوات المسلحة الروسية قد "ألحقت العار بنفسها في أوكرانيا"، معتبرة أن هذا الشعور اليائس يدفع روسيا للتركيز على ترويع المدنيين والتهديد باستخدام الأسلحة النووية، مشيرة إلى أن التصعيد الغربي للرد على ما أسمته "الفظائع" في أوكرانيا، يجعل فرص انتصار روسيا تتضاءل.

صحف غربية عدة ذهبت في الاتجاه ذاته لتبحث عن سبل دعم أوكرانيا وتوفير مقومات انتصارها على روسيا، بل ذهب البعض لمناقشة ما وصفه بشروط قبول وقف القتال وحفظ ماء وجه روسيا، واعتبر آخرون أن هذا النصر بات حتمياً لأوروبا بأكملها إذا أرادت العيش في سلام وإنهاء "عصر بوتين وعقيدته" وطي صفحة المطالبات الروسية بالهيمنة على دول كثيرة تقع في نطاق مجالها الحيوي، وأن "إنتصار" أوكرانيا سيحول دون نشوب حروب أخرى في تلك المنطقة مستقبلاً. ويذهب فريق آخر إلى دعم وجهة نظره بشأن ضرورة دعم أوكرانيا للانتصار في الحرب بسرد عوامل أخرى مثل الإسهام في إستعادة التوازن في الأمن الغذائي العالمي وتفادي مجاعات محتملة حول العالم، وتجنب أعباء ناتجة عن لجوء نحو 5 ملايين أوكراني لدول أوروبية أخرى.

إذاً، الأمر لم يعد بحاجة إلى إثباتات ودلائل كثيرة لتبني الإفتراض القائل بأن الحرب الدائرة حالياً لم تعد بين روسيا وأوكرانيا بل تتجه تدريجياً لتكون بين روسيا والغرب، بمعنى أن ماكان نوعاً من المبالغة في التقديرات منذ أسابيع، قد أصبح أكثر ميلاً للحقيقة. وكمراقب، لا نميل إلى أياً من وجهتي النظر بقدر ما نحاول تفنيد الحقائق وفهم مايدور من حولنا، لاسيما أن بعض كبار المسؤولين الغربيين يعترفون علناً بأننا نعيش إرهاصات حرب عالمية جديدة، والمعضلة الأكثر سوءاً أن الأمور تتجه إلى المزيد من التدهور، لاسيما في حال قبول عضوية فنلندا والسويد في حلف شمال الأطلسي (ناتو) حيث يتوقع أن تُشعر هذه الخطوة روسيا بالمزيد من الضغوط الإستراتيجية، وقد تتوافر لها ـ من وجهة نظرها ـ المبررات التي تدفعها إلى المزيد من التصعيد وربما الإجراءات غير مضمونة العواقب، والخوف كل الخوف أن تمضي الأمور في مسارها التصعيدي دون حساب دقيق لأي أخطاء أو سوء تقدير للمواقف وردود الأفعال، ما قد ينتهي بالحرب بالوكالة إلى صراع نووي عالمي، والمسألة هنا لا تنطوي على مبالغة تحليلية من أي نوع، فروسيا لوحّت غير مرة بالسلاح النووي، واعتبرت أن تحذيراتها لا يجب الاستخفاف بها، بينما يتابع الجميع الإجراءات الأمريكية القوية المتسارعة لدعم أوكرانيا عسكرياً، حيث اعتبر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أن هزيمة القوات الروسية لن تكون كافية، وقال "نريد أن نرى روسيا وقد ضعفت لدرجة أنها لا تستطيع القيام بما قامت به عند غزوها لأوكرانيا"، وكذلك موقف رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي قال في إجتماع برلماني "علينا ببساطة أن نفعل كل ما في وسعنا، وبشكل جماعي، لضمان فشل فلاديمير بوتين، وفشله الشامل"، وكذلك هناك موقف فرنسا التي اخترقت بنفسها جدار الصمت الذي فرضته على نفسها بشأن الأسلحة التي تقدمها لأوكرانيا، واعلنت أنها أعارت 12 مدفع من طراز "قيصر" وارسلت عشرات الآلاف من القذائف والصواريخ المضادة للدبابات إلى أوكرانيا، مايظهر انتهاء الصمت الرسمي الفرنسي حفاظاً على قنوات الإتصال مع موسكو، واعلان وحدة الصف الغربي في تقديم الدعم لأوكرانيا، وهذا كله يعني أن فكرة التسوية السياسية أو التفاوضية التي تنهي الحرب من خلال بدائل متاحة، باتت صعبة في ظل رؤية الغرب القائلة بأنه "لا يمكن أن ينظر إلى بوتين على أنه نجح في تعديل الحدود السيادية لأوكرانيا بالقوة".

والخلاصة في نهاية الأمر أن فكرة إنهاء الأزمة الأوكرانية لم تعد بالسهولة التي كانت عليها في بدايات الأزمة قبل نحو شهرين، بل ازدادت تعقيداً واتسعت دائرة الصراع على الصعيد الميداني، وأيضاً في الإطار المفاهيمي والسياسي والاستراتيجي، ولم يعد من السهل طرح بدائل ومقترحات تنهي المواجهة عسكرياً فتنتهي سياسياً، فقد أصبح الاشتباك الاستراتيجي أكثر تعقيداً وصعوبة وعمقاً من الصراع في مسرح العمليات الأوكراني.