ليس مستغرباً ما قام به الرئيس التونسي قيس سيعد، فالرجل ومنذ ما قبل توليه السلطة كان شديد الوضوح، وأعلنها أكثر من مرة أن تعديل الدستور والانتقال إلى النظام الرئاسي أولوية رئيسية له.

الغريب أن الرئيس نفسه وفي انتقاد سابق قال إن دستور 1956 فصل على مقاس طرف واحد، إشارة إلى الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ودستور 2014 فُصل على مقاس عدة أطراف، فماذا عن دستور 2022 وعلى مقاس مَن تم تفصيله، إلى درجة التدخل في اللغة والمفردات، والتي وردت نصاً على لسان سعيد خلال حملته الانتخابية، وكأن مشروع الدستور الجديد كان جاهزاً فيه جيبه وهو يتحدث عن برنامجه الانتخابي.

قيس سعيد الذي اتكأ على فصاحة اللسان وتاريخه غير المعروف ومغازلته لمشاعر الناس واللعب على الوتر الحساس المتعلق بالحريات والعدالة تخطى في استفراده بالسلطة دستور الحبيب بورقيبة، وتجاوز تعديلات زين العابدين بن علي المتتالية لتمكينه من البقاء في السلطة، وها هو يأتي بدستور لا يمكن وصفه بأي وصف سوى "دستور الفرد".

في دستور قيس سعيد، الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو مَن يحدد السياسة العامة، ويمارس السلطة الترتيبية العامة ويُعين الوظائف العليا المدنية والعسكرية ويعرض مشاريع القوانين مع أولوية النظر فيها قبل أي مشاريع أخرى، وهو مَن يُعين الحكومة ويقيلها، والحكومة ليست بحاجة إلى ثقة البرلمان، إلى جانب العديد من الصلاحيات.

الرئيس قيس سعيد وفي حال تمرير مشروع الدستور الجديد، يبدو أنه سينشغل مباشرة في إيجاد توطئة مناسبة لآلية تعديل الفصل رقم 90 والمتعلق بعدم جواز تجديد الرئيس لترشحه إلا لمرة واحدة، لضبط المقاس تماماً حسب ما يُراد له.

جرأة قيس سعيد الذي هبط بالمظلة على قصر قرطاج دون أي دعم سياسي ولا حزبي تثير الاستغراب، فكيف لشخص بلا أي إسناد مؤسسي يستطيع تغيير وجه الدولة وأدواتها، ويهمش كافة الفاعلين دون أدنى اعتبار لأحد.

قد نفهم قدرة الرئيس على تقويض سلطة "النهضة" و"قصقصة أجنحتها" كون الشعب التونسي شعب منفتح ولا يمثل تربة خصبة لأي تيارات متشددة وذات إيديولوجيات دينية نظراً للثقافة السائدة في تونس، وفي هذا الحال فمن الطبيعي أن يتمكن أي رئيس من تهميشهم وقلب الطاولة عليهم بإسناد شعبي واضح لا خلاف عليه، ولكن ما لا يُفهم كيف تمكن من "تدجين" كافة التيارات الأخرى وتهميشها وايصالها إلى مرحلة من الإفلاس السياسي بحيث أصبحت أقرب إلى جمهور المسرح الذي يشاهد دون أي قدرة على التدخل في النص.

قيس سعيد لم يتمكن حتى اليوم من النهوض بالواقع الاقتصادي والمعيشي للتونسيين، لا على العكس فالأوضاع إلى تراجع مع ارتفاع مستويات الفقر والبطالة والتراجع المستمر في تصنيف الاقتصاد التونسي من قبل وكالات التصنيف الدولية، أي أن المحصلة تؤكد بأن الرجل لم يلبي الحد الأدنى من تطلعات الشعب التونسي الباحث عن حياة كريمة ومستوى عيش مقبول.

وفي هذه الحالة، أي عدم وجود تيار سياسي داعم مع أوضاع اقتصادية ومعيشية سيئة، تزداد غرابة الأمر، وبعيداً عن نظريات المؤامرة والتدخلات الخارجية والتي كانت أحد شعارات قيس سعيد منذ توليه السلطة، قد يُفسر ما يحدث بأنه اليأس الذي تسلل إلى التونسيين نتيجة تجربتهم المريرة منذ ديسمبر 2010، فقد جرب التونسيون كل أشكال وأنواع الأحزاب والتيارات السياسية، وعندما وجدوا ضالتهم في شخص الرئيس باعتبار أنه من خارج المشهد السياسي كانت صدمتهم القاضية، فما أن وضع رجله في القصر حتى بدأ بممارسة ذات الهواية السياسية دون أن يلتفت لمعاناة الناس ومطالبهم المعيشية البسيطة.

لست ممن يفسرون ما يحدث في تونس بأنه جاء بإسناد خارجي (وهذا لا يعني بالضرورة عد وجود دعم بصورة ما) فقد تكون حالة اليأس التي وصل إليه الشعب التونسي جعلت منه غير مهتم بما يحدث وبمن سيأتي ومَن سيحكم وكيف، إلى الدرجة التي قد ينجح فيها قيس سعيد بتغيير كل شيء دون أي عناء أو مواجهة تذكر.

بالمحصلة يبدو أن الشعب التونسي وصل إلى مرحلة "نفض اليد" من كافة الطبقة السياسية ولم يعُد مهتماً بما يجري في قرطاج وما حوله، إلا أن الشعوب وإن تمكن منها اليأس لفترة ما إلا أن كثرة الضغط قد تنسف المشهد برمته من جديد، وعندها يكون قيس سعيد قد وضع تونس على بوابة الدولة الفاشلة، وتغييرات الحكم المتتالية سواء كان ذلك بسبب جهل من الرئيس وافتقار إلى الحكمة أو عن قصد وغاية في نفسه.