بعد عقدين من سقوط نظام حزب البعث، أزمات العراق السياسية والاقتصادية لا تجد حلا، وتقود البلد إلى مفترق طرق خطير يهدد استقراره ووحدته، بعد أن أصبح محاطا بأطماع داخلية خارجية ترهن مصير شعب عانى من ويلات الديكتاتورية والحصار والفساد والنهب.
وفي خضم ما يجري في العراق هناك تساؤلات عديدة ربما قد تمكننا في فهم وتوصيف القليل من الحالة التي وصل لها العراق: هل كانت الديكتاتورية العسكرية أحد أهم العوامل جنبت العراق الفوضى السياسية من خلال قطع رؤوس الفتنة؟، أم أن الوضع الحالي ما هو إلا نتيجة لتبعات الجمود السياسي وإلغاء كل مظاهر الحياة السياسية في زمن صدام حسين؟ وهل ما يحدث الآن حالة طبيعية وجب تقبلها بما أن التعبير عن الرأي والخروج للشارع حالة من حالات الديمقراطية؟، أم أن ما يحدث يعبر عن مدى التعفن السياسي وضعف النظام القائم؟
في زمن الدكتاتورية والحزب الواحد، كان مجلس النواب العراقي مجرد مجلس صوري يجتمع فيه النواب ليصفقوا على قرارات الرئيس بعد تأييدها بالإجماع المطلق، وكغيره من المجالس في الجمهوريات العربية الديكتاتورية كان الولاء للرئيس هو أحد أبرز المعايير التي يتم من خلالها تعيين أعضاء المجلس، مع مجال ضيق ومحدود لانتقاد أداء المسؤولين وفق تقارير استخباراتية تأتي من أعلى هرم السلطة : لم يكن للعراق مؤسسات منتخبة ولم يكن هناك مجال لممارسة الحقوق التي ينص عليها الدستور في النظام الجمهوري ومع ذلك لم تكن للعراق مشاكل سياسية بقدر ما كانت مشاكل اقتصادية تسبب فيها النظام بعد حربين متتاليتين وحصار أمريكي... ولم تكن الحياة السياسية في العراق تشغل بال العراقيين بقدر ما كان الوضع الاقتصادي المزرى (والذي يضل أحسن من الوقت الحالي بكثير) من صلب اهتماماته ولم يكن للتيار الشيعي مطالب سياسية حقيقية بقدر ما كانت مطالب ذات طابع ديني وهي أقصى ما كان يمكن المطالبة به.
في زمن الديمقراطية التي اتت بها الولايات المتحدة الأمريكية تحول المجلس في بتسميته الجديدة (برلمان) إلى مجرد بزار سياسي تباع وتشترى فيه الذمم ويوظف فيه المال الإيراني لضمان التواجد في المشهد السياسي العراقي والتأثير فيه بما يضمن مصالح طهران ونفوذها في البلد : اتضح جليا أن العراق لم يستفد شيئا من الانفتاح السياسي كما أن الديمقراطية أصبحت الوبال الكبير الذي جناه العراق بعد سقوط نظام البعث الديكتاتوري، بل أصبحت الديمقراطية كلمة السر التي تجمع الأطماع الداخلية والخارجية، متجاهلة مشاكل العراق الحقيقية وموظفة لكلمة الفساد في الخطاب السياسي تارة لتحريك الشارع و تارة للتراشق السياسي ونشر الغسيل الوسخ لبعض المسؤولين في محاولة لإسقاطهم واستبدالهم بأشخاص أكثر فسادا ويتقبلون مبدأ ''تقاسم الكعكة''.
لم تبني الديكتاتورية البعثية دولة بمفهوم الدولة ولكنها أسست لدولة بمفهوم ''الثكنة''، ولم تكن هذه الثكنة تؤمن بفكرة الزوال بل إن الشيء الوحيد الذي يأتي بعدها هو الطوفان الذي يجرف الجميع. ربما كان هذا هو خطأ البعث القاتل الذي يدفع ثمنه العراقيون اليوم؛ والذي سهل لأمريكا استيراد سياسيين فاسدين يحملون جنسية مزدوجة لملأ الفراغ ولخدمة مصالح واشنطن، أما طهران فوجدت في التيار الشيعي أداة فعالة تسللت من خلالها داخل المشهد العراقي واثرت فيه بالشكل الذي يبقي هذا البلد في مرحلة سبات عميق يخدم مصالح طهران في العراق وفي المنطقة الخليجية عموما.
لا يمكن وصف ما يجري في العراق اليوم على أنه حالة طبيعية ومشهد من مشاهد الديمقراطية التي من المفترض أنها تبني ولا تهدم وتصحح ولا تفسد، ما يجري في العراق دليل واضح على ضعف الدولة واستقواء التيارات السياسية عليها هذا الاستقواء لم يأتي بطبقة شعبية وإنما أتى بدعم من قوى خارجية ترى أن العراق خرج من مرحلة شبه الإفلاس ودخل في مرحلة ملأ الخزائن من أموال النفط، ينبغي فيها تنفيذ مخطط اسقاط الدولة و تنصيب فاسدين جدد لتقاسم التركة.
- آخر تحديث :
التعليقات