مما لا شك فيه أن حق تقرير المصير حق طبيعي مثبت في العهود والاتفاقيات الدولية من الناحية النظرية، ويعني باللغة الانكليزية اصطلاحاً (self-determination) وتفسيره منح الشعب أو السكان المحليين إمكانية أن يقرروا شكل السلطة التي يريدونها وطريقة تحقيقها بشكل حرّ وبدون تدخل خارجي، ويُنسب هذا المصطلح إلى رئيس الولايات المتحدة الأميركية وودرو ويلسون مع أنه جرى قبله استخدام مصطلحات مشابهة، حيث كان مبدأ حق تقرير المصير في جوهر اتفاقية فرساي التي وُقعت بعد الحرب العالمية الأولى، وأمر بإقامة دول قومية جديدة في أوروبا بدلاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية الألمانية، وفيما بعد كان هذا المبدأ أساس المطالب المناهضة للاستعمار، بمعنى الدعوة إلى إلغاء السيطرة الأوروبية الاستعمارية على أفريقيا وآسيا.

وبعيداً عن الخوض في تفاصيل التاريخ التي تسكن معظمها أبالسة المستعمرين الذين قسموا كعكة الأوطان فيما بينهم، وخاصة في الشرق الأوسط حينما مزقوا أوطان العرب والكورد وصنعوا ممالكاً على مقاساتهم وضموا أراضي كوردستان إلى تلك الكيانات في تركيا والعراق وسوريا وإيران، وحينما اعترضوا على ذلك قامت الدنيا ولم تقعد فاستخدموا كل الوسائل لقمع تلك الشعوب حيث يرهبونهم من تبعات مناداتهم في الاستقلال وما سيحصل من كوارث، حتى أن البعض منهم وخاصة (الحنون جدا) قال بأنه مع حقنا في تقرير المصير وحتى مع الاستقلال، لكنه يخشى علينا من تركيا وإيران، وأننا سنكون دويلة محاصرة ستنهار حالها حال شقيقتها في كوردستان الشرقية، التي اغتالها التوافق السوفييتي الإيراني بصفقة غير طاهرة، بالضبط كما كان يرهبنا صدام حسين وحزبه والقذافي ولجانه الشعبية وبعث سوريا وأسده، من أن أي محاولة لإزالتهم من الحكم ستقوم القيامة، بل هدد صدام حسين بأنه سيحيل العراق إلى حفنة تراب إذا اخذوا الحكم منه، بهذه الثقافة والعقلية تعاملت معظم الأنظمة العنصرية والمحتلة لكوردستان في أجزائها الأربعة، مع طموحات شعب يتجاوز تعداده الأربعين مليون نسمة، يرفض الاستكانة ومحاولة إلغائه، ويصر على أن يمارس إنسانيته وحريته وخياراته الاجتماعية والثقافية والسياسية وبشكل حضاري، دونما الذهاب إلى خيارات أخرى لولا انه اضطر إزاء عمليات الإبادة، إلى الدفاع عن نفسه، كما حصل في معظم الثورات والانتفاضات عبر تاريخه.

لقد تجاوزت تلك الحكومات في تعاملها مع الكوردستانيين حتى إسرائيل وجنوب أفريقيا في تعاملهما مع السكان الأصليين سواء الفلسطينيين أو الأفارقة، حيث استنسخت وببشاعة ثقافة الاستيطان وعملت على تطويق كوردستان بحزام ناري من مواطنين مستقدمين من مناطق اخرى لا يمتون أصلا للمنطقة أرضاً وتاريخاّ وشعباً بأي صلة، كما حصل في الحزام العربي بسوريا ومثيله في العراق حول كوردستان وبلداتها، والتي تبخرت في الساعات الأولى لسقوط تلك الأنظمة واستبشر المواطنون خيرا في استعادة حقوقهم وبلداتهم وقراهم، لكن الأحداث التي مرت بعد إسقاط نظام صدام حسين، أثبتت أن تلك العقلية متكلسة في كثير من مراكز القرار الجديدة حيث تم تكريس ذات السلوكيات التي مورست مع شعب كوردستان، حيث تم إقصائه وتهميشه بأساليب خبيثة، ربما أكثر إيلاماً مما حدث سابقاً، فقد تم محاصرة الإقليم وإشاعة الكراهية والحقد ضده وضد قياداته ورموزه، والعمل على شق صفوفه والعودة إلى سياسة تصنيع ما كان يسمى بـ (الجحوش) ، كما يسمونهم في كوردستان، وبدلاً من ميليشيات ومفارز شبه عسكرية تم تصنيع أحزاب كارتونية وشخصيات عميلة، ناهيك عن سرقة حصة الإقليم من الموازنة لخمس سنوات متتالية (2014- 2018) وقطع مرتبات الموظفين والبيشمركة وحصة الإقليم من الأدوية والوقود والقروض.

لا نريد الخوض في تفاصيل المآسي التي سببتها حكومات العهد الديمقراطي، منذ أول حكومة بعد نيسان 2003 وحتى الأخيرة، فلم تتغير خارطة الطريق التي استخدمتها كل حكومات بغداد منذ قيام المملكة العراقية وحتى يومنا هذا، وما تحقق في كوردستان إنما أنجزه شعب كوردستان وفعالياته السياسية والاجتماعية بصموده أمام الحصار والتآمر والحرب التي شنتها منظمة الإرهاب الدولي داعش، أو تلك الهجمات التي تشنها الميليشيات الخارجة على القانون، منذ أكثر من سبع سنوات، والتي لا تختلف في مخرجاتها وأهدافها عن جرائم الأنفال والحرب الكيماوية والحصار الذي استخدم ضد الاقليم منذ سنوات، كل ذلك دفع الشعب الكوردستاني في 25 ايلول 2017م الى الإستفتاء بأسلوب مدني حضاري للتعبير عن رأيه فيما يتعرض له من شركائه المفترضين في الوطن، حيث أعلن 93% منه موافقته على الإستقلال.

وبدلاً من التعامل الحضاري مع قيادة الاقليم حول نتائج الإستفتاء كما فعلت بريطانيا مع سكوتلاندا، وذلك بإجراء حوار مستفيض إما لحل كل الاشكاليات التي كانت سبب الإستفتاء والذهاب الى عدم تنفيذ نتائجه، أو تطوير النظام الفيدرالي بشكل أوسع، إلا أن الطرف الآخر رفض أيّ حوار بالمطلق واختار الحسم العسكري ففرض الحصار ومنع الطيران وأغلق الحدود وشن حرباً بالتعاون مع إيران وخبرائها العسكريين على الإقليم في ثلاثة معارك مفصلية كانت تستهدف فيها العاصمة أربيل لإسقاط الشرعية والكيان السياسي للإقليم، ورغم فشل كل تلك المحاولات ومرور خمس سنوات على إجراء الاستفتاء فإن الظروف التي أدت إلى قيامه ما تزال كما هي بل ربما أصبحت أسوء مع تغول وتنمر الميليشيات والجماعات المسلحة الخارجة على القانون والمدعومة خارجيا والتي تستهدف الاقليم بكافة أسلحتها في محاولة منها لإيقاف عجلة التقدم والازدهار التي فضحت فسادهم وفشلهم في إدارة الدولة.

[email protected]

#فضاءـالرأي