قبل أيام كتب الإعلامي والأديب ناصر الظاهري في صحيفة الاتحاد الإماراتية مقالا بعنوان "العالم استخفت"، قال فيه: "ماذا صار في حياتنا، وكيف انقلبت وتغيرت أطوارها؟ والعالم أصبح مستخفاً، وعاد الناس مراهقين، أصبح الكثير من نجوم الساحات الرقمية أطباء ومروجي أعشاب وداعين للتداوي بالأعشاب والأوهام، وما عجز عنه الطب الحديث ومختبرات الأدوية المتطورة في العالم. المصيبة الكبرى حين يردفون حديثهم وإعلاناتهم بأشياء دينية ومن الأثر، وهم في كذبهم يخرصون، ويزينون للبسطاء فيما يجهلون".
يدعو الظاهري في مقاله كل عقلاء العالم لأن يتحدوا، ويقفوا وقفة صادقة أمام الاستخفاف بالحياة والإضرار بتفكير الناس، ويتفقوا على صياغة ميثاق شرف إعلامي رقمي، ويعيدوا لنظرية «حارس البوابة الإعلامية» دورها الحقيقي، وفاعليتها في ضبط الكثير من الأمور في معادلة الحياة وقيمها ومثلها، "لقد استخف الناس اليوم، وجننوا العالم بأشيائهم الناقصة وغير المحتملة، والتي تضر بالبلاد والعباد، وتهدم الأخلاقيات الإنسانية".
لا أدري إن كانت نظرية "حارس البوابة الاعلامية" ما زالت قائمة الآن في عصر الإعلام الرقمي وشبكات التواصل والتناحر، لكننا نسأل من هم هؤلاء الذين يشير اليهم الكاتب؟ وهل هناك سمة مشتركة بينهم لنتعرف عليهم؟
هذه السمة المشتركة قد تكون موجودة فعلياً، وهي ما يسمى "النرجسية الرقمية"، وفي دراسة مشتركة بين جامعتي سوانسي وميلان، أظهرت ولأول مرة، أن المشاركين على شبكات التواصل الذين اعتادوا نشر عدد كبير من صور السيلفي والفيديوهات الشخصية، أظهروا 25٪ أكثر من السمات النرجسية، متجاوزين الحد المقبول طبياً ويعتبر ذلك اضطراباً نفسياً لدى الشخصية النرجسية.
ويجد النرجسي الرقمي في الشبكات الاجتماعية وسيلة مثالية لتلبية احتياجاته، وهذه بدورها تغذي تلك الاحتياجات، كما أشارت الدراسة. واكتشف هؤلاء الباحثون أن ثلثي الأشخاص يميلون إلى استخدام الشبكات الاجتماعية بشكل أساسي لنشر صور السيلفي، ما يدل على أن الشبكات الاجتماعية تعمل كمضاعفات للرغبة في أن تكون مركز الاهتمام وتلبية تلك الحاجة العميقة لإعجاب الآخرين بهم.
هذا الشعور يخلق حلقة تغذي نفسها بنفسها، خاصة عندما تتلقى ردود فعل إيجابية، فتخلق نوعاً من الاشباع الذاتي المؤقت، ولكي تبقى في الحالة نفسها، تزيد الحاجة لجرعات الاشباع خاصة إذا كان هذا الشخص يعتقد أنه غير قادر على تلبية تلك الاحتياجات في العالم الحقيقي بالطريقة نفسها.
وقد يصل المصاب بالنرجسية الى مستوى الجشع لأن شغفه لا يعرف حدودًا، ويتطلب إشباعًا فوريًا من خلال تفاعله مع الآخرين ليعيش في حالة من القلق الدائم... هكذا وصف عالم الاجتماع كريستوفر لاش، شخصية النرجسي الرقمي.
وتشير الدراسة إلى أن الشبكات الاجتماعية تجذب بشكل أساسي النرجسيين الضعفاء، أولئك الذين يشعرون بمزيد من عدم الأمان ولديهم ثقة أقل بالنفس، لأنهم في بيئة الإنترنت يشعرون بثقة أكبر للتفاعل مقارنة بالتواصل والتفاعل في الحياة الحقيقية، ولهذا السبب يستخدمون الشبكات الاجتماعية كوسيلة للحصول على الإعجاب الذي يريدونه.
وهناك شعور يولد لدى النرجسيين بأن الآخر، أي المتابع، "موجود على الفور" ولكن في الوقت نفسه، "غير موجود" في المحيط القريب. إنها مفارقة، لأن حقيقة أن الآخرين يمكن أن يكونوا حاضرين - دون أن يكونوا جسديًا على اتصال، وكنتيجة لذلك يُترجم غياب الآخر إلى الأشخاص القلقين على أنفسهم بشكل مهووس، والذين يواجهون الخوف من الوحدة والعجز كونهم أكثر ارتباطًا بالاخرين ولكن في الوقت نفسه فهم يعيشون بمفردهم.
الشخصية النرجسية الرقمية، حسب الدراسة، على عكس ما يعتقده كثير من الناس، ليست شخصية مقاومة للرصاص، بل هي تختبئ وراء درع زجاجي هش وقد تكون النرجسية الرقمية، بعد كل شيء، تعبيرًا عن أنانية شديدة يغذيها الشعور بأن الفرد تزيد قيمته عندما يكسب تقدير الناس ليس بما يعمل بل بما يظهره للآخرين. وقد تتفاقم هذه الأحاسيس الأوهام الكاذبة بالعظمة إلى أن تفصلهم نهائيا عن العالم، فليس لديهم تجارب حقيقية في الحياة.
يقول فرانك سيناترا في أغنيته الخالدة "ماي وي":
ماذا لدى الإنسان؟ إن لم يكن نفسه فليس لديه شيء.
التعليقات