لا يخفى على الجميع أن العرب دخلوا إلى التاريخ بعد بزوغ فجر الإسلام، وكانوا متأخرين نسبياً مقارنة ببعض الثقافات والشعوب المحيطة، لكن مع ذلك دخلت بعض الشعوب التي في الأقاصي، إلى عالم الحداثة، بعدما دخلت عالم التاريخ متأخرة جداً، وعلى عجالة سريعة، في زمن قريب، ونجحت في دخول عالم الحداثة، لأسباب معروفة، منها مرونة وبساطة الثقافة لديها، وقلة المحضورات والمسلمات، المتولدة من تعقّد التاريخ وتكلس المعرفة، بسبب تعاقب الحقب وعثرات عصور انحطاطاتها، وهزائمها الطبيعية، التي ينتج عنها التصلب في الرأي، وعدم قبول المغاير الذي ليس من شروطه الذوبان والإنصهار فيه، ولا شك أن لكل أمة عثراتها وانحطاطاتها، لكن تختلف بعضها عن بعض، وبالتالي يختلف التعاطي مع إصلاحها وطرق حلها، وقد يكون من أهم إشكالات المسلمات في الأعراف والتقاليد لدينا، هي بنية الثقافة في جذرها الأول، لا بسبب دين الحق بكل جلاء .


وقد تسائل كثير من المفكرين المعاصرين العرب وغيرهم، كيف يدخل العرب الى عالم الحداثة، الذي من مقتضياته، غربلة التراث وتنقيته، من الشوائب التي لحقت به عبر العصور، وخصوصاً العصور المدرسية التلقينية، كالخرافات والأساطير الشعبية، بشرط البحث عن الحقيقة الناصعة مهما كانت مؤلمة، ونبذ الأوهام الجميلة المخدرة للوعي، مع الاحتفاظ بالثوابت الرئيسية التوقيفية المتفق عليها، بين جميع الأمة، والتي لا تقبل الجدال . والتي لا تشكل أصل المعضلة، لأنها متوافقة مع القيم الإنسانية والفطرة السليمة في أوسع صورها، وقبل ذلك مع الدين الحنيف، وإبعاد الشعوذات الفكرية، أو كما قال ماكس فيبر ( نزع السحر عن العالم ) ومن المعلوم ماذا يقصد بالسحر بمعناه الميثولوجي، لا بمعناه البديهي المتعارف عليه .


ولا يخفى على الجميع بأن نقد الذات الايجابي والبنَّاء،
مفيد جداً، وهو الحل الناجع للسلام المجتمعي، والتقدم العلمي والثقافي، والرفاه الإقتصادي والحضاري، وهو بلا شكل ينبع من شجاعة في مواجهة الذات وتجرد للحقيقة، وهضم قيم العصر الإنسانية، والتماشي معها، بحكم أنها تتوافق مع إنسان هذا العصر، عصر التقنية الحديثة . وقد زعم بعض المفكرين بأن العالم الثالث، تعامل مع الآلة والتقنية المستجدة، بروح القرون الوسطى، واستعملها ظاهرياً فقط، ومن الجلي أن الوعي يحتم على انسان هذا الزمن، التعامل معها بكامل الوعي المصاحب لتطورها بشموليته، وعدم التعاطي بهذا الإتساق يقود للتخبط والتشويش السلوكي الخطير، الذي يترتب عليه كوارث ومآسي لا تخفى، لأن هذا هو الإتساق الطبيعي الذي يجب أن يصاحبها، المساوق للمنطق السليم، ورحم الله علماءنا القدماء الأجلاء المجددين لثقافاتهم حسب تطور مايطرأ من تقدم بشري، ولا عجب من إقدامهم بكل جرأة على هذا العمل الشاق والمؤلم، والمتعارض مع خوف الإنسان وتردده وغروره على مكتسباته الرائعة بالنسبة لعصرهم، التي قد تحدّ وتعيق من هذا التطور، وهذا التصرف السليم تأتى بسبب فتوة الثقافة ونشاطها وعنفوانها، القادر بكل كفاءة على تجاوز الإشكالات المستجدة، لكن مع كل ذلك، ومع أن هذا المشروع الضخم، أمامه عقبات كأدا، تتطلب رجالاً أقوياء وشجعان وصادقين مع أنفسهم، وغيورين على مجتمعاتهم، فإنه غير مستحيل في هذا العصر بالذات، مع وجود التقنية الحديثة، وسرعة الوصول للمعرفة والمعلومة، بشرط حسن النية، وسلامة القصد، والمسؤولية الكبرى أمام التاريخ .


وهذا التغير الشبه جذري في الثقافة، لا يتأتى إلا بخطة عمل متكاملة ومدروسة جيداً، ومستوعبة لكامل الأوضاع، ومستعدة لإيجاد الحلول المتعددة، لأي إشكال طبيعي قد يطرأ ويعيق هذا التصحيح الجبار والشامل، واستباق الخطط بوضع الحلول المناسبة، لأي حدث محتمل، قد يحدث في قابل الأيام، لهذه الخطة المرسومة بدقة ووضوح وانسيابية، ببناء الأسس والقواعد والمعايير و المفاهيم، التي تشكل هيكل العملية الإصلاحية الثقافية بكاملها، برسم خارطة طريقة مشرّفة وواضحه وواثقة وطموحه، حامله للقطيعة مع كل معلومة مغلوطة، اجتهد الفضلاء عبر العصور، في نحت وصقل نواتها حتى خرجت بقوام رشيق تماشت مع واقع عصرها . ومن المعلوم أن كل ثابت متحول، وكل متكون دائما ما يعيد تشكله بما يناسب زمانه ومكانه، عدى الثوابت الدينية الواضحة المتفق عليها قطعياً، والتي بلا شك تتعالى على الزمان والمكان، بكينونتها الراسخة في الضمائر، وبأنها تشكل ينبوع الحقيقة لنا كمؤمنين بها بكامل وجداننا، فينبغي لكل منصف عاقل، أن لا يصادم نواة معتقداته، المُـتَـحَمِّـله بدورها لكل حدث طبيعي لتطور التاريخ .


ومن أهم مايجب إصلاحه ويعتبر من أكبر أسباب الإنسداد التاريخي والحضاري والثقافي، هو إعادة تعديل المصطلحات، التي لا تناسب العصر كمفهوم الهوية، وإعادة غرس مفاهيم حديثة ضرورية، كمفهوم الوطنية والدولة الحديثة، المبنية على مصالح محددة وواضحة، كلها في صالح الدولة العصرية، والشعب الواحد، لإعتبارات وأسباب جوهرية مصيرية، لا تخفى على الموضوعيين والمتجردين من الحزبية والنفعية والانتهازية اللامسؤولة .


ولا يغيب على المتخصصين إن لم يكن على الأغلبية، الأهمية القصوى للغة في تحديد المعاني، التي بدورها ستزحزح الفهم القديم للعالم، والتصور التقليدي التي أنتجته العصور البعيدة عن صفاء الدين، الغير مناسبة للعصر الحديث في أغلب النواحي، إن من الناحية العلمية أو المعرفية، أو الثقافية، أو حتى الأدبية . ومن الواضح للراصد والمشتغل على هذا الحقل، أن اللغة هي الأداة التي تشكل فهمنا للعالم وللأشياء . وتطور المجتمع مرهون بتطور اللغة، لأن لكل عصر مصطلحاته ومفاهيمه ثقافياً، فلا يمكن مثلاً أن نسقط اللغة الثقافية والفكرية والأدبية للقرون الوسطى، على مدارس العصر الحديث، لكل التخصاصات، بمصطلحات مغايرة للغة هذا العصر في بديهياته الأساسية، وذوق إنسان القرن الثاني والثالث الهجري، يختلف عن ذوق إنسان هذا العصر، بسبب الصيرورة المكونة للجديد، القائدة للتحديث، مع بقاء المحتوى القيمي والإنساني طبعاً، المتعالي على الزمان والمكان واللغة .

ومن أهم الشروط لتفكيك المشكلة، والدخول للعالم الأرحب، هو السماح للإنسان بإمتلاك الحرية الوجودية الذاتية الأصلية، في مواجهة مصيره، من ناحية اختياره بين أن يكون أو لا يكون، وبأنه لايمكن له أن يتقدم إلا بشجاعة ثقافية معرفية وجودية، ستمزقه وتؤذيه في بادئ الأمر، لكنها ستحرره في الأخير، من أسر التخلف، المريح في ظاهره، البئيس من جميع النواحي على المدى البعيد في جوهره، الكامن في تساؤل الإنسان وقلقه الوجودي، وهروبه من عذاباته، بالإلتجاء إلى حياة القطيع، والإنقياد خلف الأبطال الوهميين، المتمسكين بالمعارف البالية والمُضلة، التي عفى عليها الزمن وتجاوزها، والمتسلقين على أكتاف السواد الأعظم من الجماهير، وهؤلاء المتسلقين المزيفين، يلعبون بلا أدنى شك على أوتار الأصالة والموروث البعيد عن المقدس، في نقاءه وأصالته الغير معقدة بالطبع، بإتباع رموز العلماء القدماء، الذين اجتهدوا قدر الإمكان، في حل مشكلات مجتمعاتهم، وحسب معارف عصرهم المتاحة، وبلا شك هم يشكرون، على مابذلوا من جهود جبارة لا تنكر، في سبيل تقدم الانسان، لكن مع كل ذلك، يجب أن لا تضفى القداسة على اجتهاداتهم الشخصية، والتي للأسف كرسها تلاميذهم وأدلجوها وقولبوها، إن بحسن نية أو غير ذلك، حتى شطرت المجتمع وحولته إلى شظايا وفرق متناحرة، ومدارس دوغماعية، شمولية، حدِّية، قطعية، يقينية، طهرانية، خلاصية، متطرفة ثقافياً، منغلقة على ذاتها، كانت سائدة في تلك العصور، والتي آلمت ومزقت الشعوب، وقسمتهم الى طوائف، لا تقبل التسامح، ولا العيش المشترك، المبني على أحقِّية جميع المواطنين، في العيش بسلام، في أرضهم ووطنهم من دون أي إجحاف أو إقصاء أو إنتقاص اجتماعي وثقافي وهذا بلا شك لا يُرضى العلماء الأقدمين الذين اجتهدوا في إيجادها ومقاربة حلولها .


وقبل كل هذا اللغط، فقد أرسى نبي الهدى، والرسول الأكرم، حقوق الجميع على الجميع، وخير شاهد على ذلك وثيقة المدينة الشهيرة، التي كانت ستصبح نواة للتسامح الإجتماعي في جميع المنطقة، في سبق رائع لأغلب الأمم، وقد سار على ذلك الجيل الأول من المسلمين . والتاريخ شاهد على ذلك .