تتشابك التحديات التي دفعت بسعر الدولار الأميركي الى نحو 1500 دينار عراقي لترسم صورة نمطية لاقتصاد دولة ناشئة تواجه عدة معضلات أساسية يأتي على راسها فاتورة استيرادية تناهز ال 65 مليار دولار سنويا، مع تهرب مزمن من الجمارك والرسوم لضعف هيكلي في السيطرة على المنافذ الحدودية، وفساد مستشرى تحاول الحكومة العراقية الجديدة مواجهته للنهوض بالاقتصاد وتعظيم موارد الدولة.


وللوهلة الأولى، قد يتصور البعض ان منع أربعة مصارف عراقية من دخول المزاد اليومي للدولار الذي يقوم به البنك المركزي العراقي هو السبب الرئيسي الذي تسبب في رفع سعر صرف الدولار الأميركي نتيجة لشح المعروض منه في السوق مما أسفر عن تكالب محموم على الشراء من قبل التجار والمستوردين على حد سواء.
لكن تفاصيل الصورة الكبيرة اعقد من ذلك بكثير وخاصة وان احتياطي العراق من الدولار يقترب من الوصول الى نحو 100 مليار دولار. فالمفارقة تبدو صارخة مع شح المعروض من العملة الامريكية في السوق.

ويبدو ان الشائعات والمضاربات على الدولار من قبل أطراف كثيرة تؤجج ارتفاعه وذلك فضلا عن تأثير مكافحة الفساد والحوكمة الاقتصادية السلبي على مجموعات من المنتفعين يقومون بالرد من خلال اشعال ازمة في سعر الصرف.
كما يرتبط الارتفاع غير المبرر بقضية التهرب الجمركي مع دخول أكثر من 80% من البضائع المستوردة دون جمارك ورسوم بسبب التزوير وطمس هوية السلع والمنشأ مما يضيع على الدولة حصيلة معتبرة كانت ستذهب الى الميزانية المخصصة لتطوير مناحي الحياة المختلفة. فمن يقومون بهذه الممارسات لا يلتفتون الى سعر عادل للدولار لأنهم لا يدفعون رسوما على السلع التي يستوردونها.
تتضافر هذه الظواهر لتؤكد ان الازمة غير مرتبطة بالدولار وتوافره وانما في الظروف المحيطة باستخداماته، وممارسات المضاربة المقيتة.


"ينبغي المضي في برنامج الإصلاح المالي والاقتصادي للمنظومة المالية والمصرفية، الذي تضمنه المنهاج الوزاري، للسير بالاقتصاد الوطني إلى النمو المضطرد". (مد شياع السوداني / رئيس الوزراء العراقي)

وفي محاولة سريعة للعمل على حل الازمة ودرءا للشبهات وتعزيزا لشفافية الجهاز المصرفي، بدأ البنك المركزي العراقي في اتاحة منصة اليكترونية يمكن من خلالها للبنوك شراء اية مبالغ بالعملة الأجنبية لأغراض التحويلات الخارجية. وبما ان هذه المنصة دخلت حيز العمل منذ أيام فمن الطبيعي ان تأخذ وقتا حتى تعمل بكامل كفاءتها وتسهم في حل الازمة بعض الشيء. كما قام بتخفيض سعر الدولار لحاملي البطاقات على استخداماتهم اثناء السفر او تسديد مقابل المشتريات عبر الانترنت ليصبح 1465 دينارا للدولار الواحد بدلا من 1470.
قد تسهم هذه الإجراءات خلال الأسابيع المقبلة في تخفيف حدة الازمة لكنها لن تؤدي الى حلها طالما استمرت المضاربات والتهرب الجمركي وانماط الفساد المختلفة. لكن الحل الجذري يتمثل في تعزيز الحوكمة والشفافية المصرفية ودفع جهود الشمول المالي في المجتمع العراقي الذي لا يمتلك سوى 19% من افراده حسابات بنكية، وتطوير منظومات المدفوعات الاليكترونية المختلفة.
كما يتعين تقليص فاتورة الاستيراد من خلال عمليات تطوير الصناعة والزراعة للاعتماد على المنتجات والمكونات المحلية، وإعادة هيكلة الإجراءات المطبقة على المنافذ الحدودية لتحجيم عمليات التهرب الجمركي التي تلعب دورا كبيرا في زيادة الاعتماد على الاستيراد نظرا للأرباح الضخمة التي يحققها المستوردون.
وبالرغم من المطالبات المتعددة للبنك المركزي العراقي بضخ مزيد من الدولار في السوق، الا ان هذا لن يكون حلا على المدى الطويل لان ذلك سيستنزف الاحتياطي وسيرسي قاعدة الاعتماد على الاستيراد، وسيكون حلا مريحا على المدى القصير والمتوسط، ولكنه سيفاقم الازمة على المدى الطويل.
من يمعن النظر في سياسات الحكومة الحالية يجد انها تحاول رسم صورة واقعية قائمة على تكامل السياسة النقدية والمصرفية، مع جهود مكافحة الفساد، وتشجيع الصناعة المحلية، وتشديد الرقابة على المنافذ الحدودية لتحقيق تطور ملموس ومستدام في سعر الصرف عبر تقليص الفاتورة الاستيرادية وسد ميزان العجز التجاري بما يحقق تنمية ونموا في اجمالي الناتج المحلي.