مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثاني من دون بارقة أمل للوصول إلى تسوية تفاوضية تنهي هذه الحرب التي تؤثر في اقتصادات العالم أجمع، يبدو السؤال الأكثر إلحاحا حول العالم هو: متى تنتهي هذه الحرب؟ وهل هناك فرصة لنهاية وشيكة لها؟ وكيف ستنتهي سلماً أم حرباً؟ هذه وغيرها من الأسئلة تفرض نفسها على الساحة دولياً بالنظر إلى تأثيرات هذه الحرب على إقتصادات جميع الدول وبالتبعية الأحوال المعيشية لمعظم الشعوب في معظم مناطق العالم، ولاسيما في أوروبا وإفريقيا مع إختلاف طبيعة ونوعية التأثيرات ومآلاتها.
ما يزيد الشعور بالإحباط عالمياً أن ما اعتقده الكثيرون بادرة أمل بشأن إمكانية التفاوض لإنهاء هذه الحرب، قد تبدد سريعاً بسبب الشروط التي تجعل أي فرصة للتفاوض صعبة للغاية على الأقل خلال المدى القريب؛ فرغم أن أدبيات التفاوض وخبرات الماضي والحاضر الدبلوماسية تقول أن وضع شروط تفاوضية صعبة ومتشددة يبدو مسألة بديهية قبل أي جولات تفاوضية، باعتبار أن كل طرف يضع سقفاً للتفاوض ثم تبدأ رحلة "الصفقات" و"التفاهمات" التي تتوقف فرص الربح والخسارة فيها على سقف كل طرف وقدرته على المناورة وتقديم التنازلات مقابل ما يعتبره مكاسب إستراتيجية أكبر: سياسية أو عسكرية أو سيادية أو اقتصادية أو حتى دعائية، فإن الحديث عن التفاوض في هذه الحالة لا يتماس مع فكرة تعزيز الموقف التفاوضي من قريب أو بعيد.
معضلة الشروط المعلنة ـ حتى الآن ـ في حرب أوكرانيا أنها تبدو مرهونة بمعادلة صفرية للصراع، حيث يريد كل طرف الحصول على كل شىء أو لاشىء، ويرى الخبراء أنها شروط تعجيزية وليست متشددة، من الطرفين، ويعتقد أن هذه الحالة مرهونة إلى حد كبير بالوضع الميداني للحرب، حيث لم يستطع أي من الطرفين تغيير موازين القوى لمصلحته لا بشكل كامل أو محدود، فالصراع العسكري لا يزال سجالاً بين القوات الروسية والأوكرانية، ولا يزال حسم التفوق الجوي والميداني لأي من الطرفين بعيد المنال رغم الخسائر الاوكرانية اليومية المتواصلة بسبب لجوء القوات الروسية لقصف البنى التحتية وتعظيم الخسائر الأوكرانية في محاولة واضحة لممارسة أقصى ضغط ممكن على القيادة الأوكرانية للتراجع عن مطالبها المتشددة، وأبرزها إنسحاب القوات الروسية من جميع المناطق التي استولت عليها.
الشواهد تقول أن دعوات التفاوض لا تزال دعائية إلى حد كبير ولا تزال الشكوك تسيطر على الجانبين حول جدية أي منهما في الجلوس على مائدة الحوار بشأن مصير الحرب، واللافت أن الجدال يدور بالأساس بين موسكو وواشنطن، التي بدأت النقاش حول المفاوضات بإعلان الرئيس بايدن في بداية ديسمبر الماضي للمرة الأولى إستعداده للتفاوض مع الرئيس بوتين حال انهاء الحرب، وهي الدعوة التي قابلها الكرملين بإعلان الإنفتاح على المفاوضات ولكن بشرط قبول الغرب لشروط موسكو.
الحديث عن المفاوضات بشأن مصير هذه الحرب يبدو اقرب إلى "جس نبض" للطرفين، وقد يستغرق الأمر وقتاً لتحسين الأجواء قبل الجلوس للتفاوض لأن العلاقات الروسية ـ الغربية قد دخلت نفقاً مظلماً حيث تتواصل العقوبات الغربية ضد روسيا، في حين تواصل الأخيرة إتخاذ إجراءات مضادة قد تتسب في إيلام الاقتصادات الغربية، وآخرها خفض إنتاج النفط رداً على وضع الدول الغربية حد أقصى لسعر برميل النفط الخام الروسي. وبالإضافة إلى ماسبق فإن تحليل الأزمة يشير إلى أن من الصعب بناء توافقات بين الجانبين، الروسي والغربي، حول أمور معينة مثل الإنسحاب الروسي من الأراضي الأوكرانية، لأن الرئيس بوتين لن يقبل بالتراجع الذي يعتبر بمنزلة نهاية لتاريخه السياسي، كما إن الغرب لن يوافق على منح شرعية لما كسبته روسيا بالحرب، أو القبول بتغيير نظام أوكرانيا السياسي ونزع سلاحها وإجبارها على "الحياد" الذي تتحدث عنه موسكو، ناهيك عن شروط أخرى يصعب تحققها أو القبول بها جزئياً أو كلياً سواء من الغرب أو من جانب أوكرانيا نفسها. وبالتالي فإن المسافات تبدو متباعدة للغاية وعلى النقيض من بعضها، ولاسيما بعد ضم روسيا 4 مناطق أوكرانية عبر استفتاءات اعتبرتها كييف "غير شرعية"، وبالتالي لا تلوح في الأفق أي بادرة حقيقية على إحتمالية القبول بتفاهمات وسطية أو الوقوف على أرضية مشتركة تمهد لإنهاء الحرب.
معضلة هذه الحرب تكمن بالأساس كما ذكرت في أنها تحولت إلى مواجهة روسية ـ غربية، حتى أن الحديث عن المفاوضات يدور ـ كما أسلفت ـ بين موسكو والعواصم الغربية وليس بين كييف وموسكو، ورغم أن موسكو تبدو في موضع أقرب إلى الدعوة للتفاوض، حيث أبدى الرئيس بوتين استعداده للتفاوض، وهي دعوة اعتبرها البعض تستهدف الترويح للفكرة القائلة بأن روسيا لا تتحمل مسؤولية استمرار الحرب، ولكن حديث وزير الخارجية سيرغي لافروف عن أن "وقت التفاوض قد حان سواء شئنا أم أبينا" دفع البعض للقول بأن موسكو تريد إنهاء الحرب لأنها ـ عملياً ـ حصلت على جزءاً كبيراً من أهدافها الإستراتيجية ولكن تحليل الشواهد يقول إنها بالمقابل تتحدث عن ضرورة "إستسلام" أوكرانيا، وهو مطلب لا يعني في حقيقته الطرف المقصود (اوكرانيا) بقدر ما يمثل عملياً استسلاماً من جانب الغرب، الذي دعم كييف بكل ما يستطيع مادياً وعسكرياً، الأمر الذي يجعل فكرة التفاوض تبدو بعيدة نسبياً.
الخلاصة أن الحديث الدائر عن المفاوضات الآن يبدو أقرب إلى "جس النبض" الذي يهدف إلى التنصل من مسؤولية إستمرار الحرب بكل تبعاته على الدول، بما في ذلك الغرب وروسيا، ولا يعبر عن نوايا حقيقية للحوار، الذي يبقى موضوعاً مؤجلاً بانتظار حدوث تغير نوعي في معادلات الصراع العسكري على أرض الواقع.
- آخر تحديث :
التعليقات