لم يكن الهجوم الذي شنته 3 مسيرات ضد مجمع صناعات عسكرية تابع لوزارة الدفاع الإيرانية في مدينة أصفهان، الإختراق النوعي الأول من نوعه في الداخل الإيراني، بل سبق ذلك عمليات إستخباراتية عدة أبرزها إغتيال العالم النووي البارز محسن فخري زادة، الذي كان يوصف بأنه مهندس البرنامج النووي الإيراني، في أواخر عام 2020، في عملية دقيقة للغاية، حيث تم إستهدافه بالقرب من منزله على حدود محافظة طهران، من خلال عملاء تم تجنيدهم في الداخل الإيراني، وحيث تم إطلاق النار على سيارة العالم النووي بأسلحة آلية جرى التحكم بها عن بعد.

الهجوم الأخير على مجمع أصفهان قد تم على الأرجح عبر مسيّرات تم توجيهها من الداخل الإيراني، حيث اتهمت إيران، إسرائيل رسمياً بالمسؤولية عن الهجوم، وذلك حسبما ورد في خطاب بعث به أمير سعيد إرافاني مبعوث إيران لدى الأمم المتحدة، للأمين العام للمنظمة الدولية، في خطوة تستهدف الحفاظ على ما تعتبره طهران حقاً مشروعاً في الدفاع عن الأمن القومي والرد بحزم على أي تهديد أو إعتداء والإحتفاظ في ذلك بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين وفق تصورها.

هناك تقرير تحدثت عن معدات ومتفجرات تم إستخدامها في هجوم أصفهان بعد نقلها إلى إيران بمساعدة الجماعات المعارضة التي تتمركز في إقليم كردستان العراق، بالتنسيق مع "جهاز أمن أجنبي". ويقول بعض المحللين إن هجوم أصفهان لم يكن قوياً بدرجة كبيرة مايفسر رد فعل إيران الهادىء نسبياً على الهجوم، ولكن الحقيقة أن المسألة لا تكمن في قوة الهجوم بقدر ما تتمثل في أبعاده ودلالاته، فاختراق الجدار الأمني الذي يفرضه الحرس الثوري بمنظماته الأمنية الصارمة يكشف اهتراء الجهاز الأمني للنظام.

الرد الإيراني على هجوم أصفهان ليس بالسهولة التي يتخيلها مؤيدي النظام الإيراني وأتباعه، وعلينا أن نتذكر أن النظام الإيراني قد عجز ـ حتى الآن ـ عن الرد في مواقف عدة أكبر من عملية قصف مجمع أصفهان، ومن ذلك مقتل الجنرال قاسم سليماني، حيث أقام النظام الإيراني الدنيا ولم يقعدها رداً على عملية الإغتيال التي اعترفت بها الولايات المتحدة بشكل واضح وصريح، ولكن النظام جمّد رد فعله على العملية، مكتفياً بعمليات قصف صاروخي محسوبة ومحدودة للغاية لذّر الرماد في العيون وتوفير فرصة الإدعاء بأن ثمة رد قد تم تنفيذه، في حين أن الحقيقة تكمن في أن النظام قد ابتلع الأمر كي يفوت على الولايات المتحدة وحلفائها إمكانية استهداف النظام الإيراني بعملية عسكرية مباشرة.

ولكن تحليل الشواهد هذه المرة ربما يشير إلى أن النظام الإيراني قد يسعى للرد خشية أن يكون الهجوم الأخير مقدمة لسلسة أخطر من العمليات التي تستهدف المنشآت النووية أو الشخصيات الإيرانية البارزة، ولكن ما يحول بين إيران والرد المحتمل هو حرص النظام الزائد على تفادي التورط في أزمات قد يقع هو نفسه ضحيتها، وبالتالي فإن فكرة إبتلاع الإهانة واردة بشدة في مثل هذه المواقف من جانب الملالي الذي شرعّوا في وقت الخميني قاعدة "تجرع السم" من أجل الحفاظ على النظام من مصير مهلك. ويدرك النظام الإيراني جيداً أن البيئة الدولية الراهنة ليست مواتية تماماً لقيامه بأي رد فعل على هجوم أصفهان، حيث تشهد علاقات طهران مع معظم الدول الكبرى توتراً ملحوظاً على خلفية تزويد إيران لروسيا بالمسّيرات، التي تقاتل في أوكرانيا، إذ تعاني علاقات إيران مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا، توترات ملحوظة ومتزايدة منذ أن تم الكشف عن إرسال إيران مسّيرات تعزّز موقف روسيا في حرب أوكرانيا.

تدرك إيران أنها في مواجهة ظروف إقليمية ودولية معقدة، ولاسيما فيما يتعلق بتوجهات حكومة بنيامين نتيناهو اليمنية، التي يدفع بعض أعضائها بقوة باتجاه الإسراع بضرب المنشآت النووية الإيرانية، فضلاً عن وجود غضب أوروبي عارم بسبب تزويد إيران لأوكرانيا بالمسّيرات التي تقاتل وتستهدف البنى التحتية الاوكرانية في الأساس.

ثلاثة مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى زاروا إسرائيل منذ وقوع هجوم اصفهان، وهم وليان بيرنز مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وجيك سوليفان مستشار الامن القومي الأميركي، و أنتوني بلينكن َوزير الخارجية الأميركية، ولعل تتابع هذه الزيارة ليس عادياً على الإطلاق، لاسيما أنه يأتي بعد مناورات هي الأكبر من نوعها بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو مايطرح تساؤلات حول مايدور بين الولايات المتحدة وإسرائيل في هذا التوقيت لاسيما أن هجوم أصفهان قد تزامن مع زيارة بيرنز تحديداً.

معضلة إيران الحقيقية لا تكمن في الطرف الذي نفذ عملية أصفهان، بل تكمن بالأساس في حجم الإهتراء والتفسخ الذي يعانيه النظام الأمني الإيراني، إذ من المعروف أن مصنع أصفهان من المؤسسات الحيوية التي تخضع لرقابة الحرس الثوري الإيراني، أضف إلى ذلك أن الهجوم قد أتسم بقدر عال من التخطيط والمعلوماتية، حيث أصابت المسّيرات الهدف بدقة بالغة، وهو أمر يشابه اغتيال محسن زادة برصاصات أصابته بشكل دقيق من دون أن تصيب زوجته التي كانت معه في السيارة ذاتها، وهو مايعكس تطور القدرات التكنولوجية التي استخدمت في الهجوم، فضلاً عن المعلومات الدقيقة التي توافرت لدى مخططي ومنفذي الهجوم.

الخلاصة أن هجوم أصفهان ينطوي على رسالة واضحة للنظام الإيراني، ولكن الرد على هذه الرسالة قد يتأخر بعض الوقت خشية أن يتسبب أي رد فعل إيراني في تصاعد المواجهة مع إسرائيل، في ظل تحفز حكومة بنيامين نتنياهو والرغبة الشديدة لدى بعض أعضائها في إستهداف المنشآت النووية الإيرانية بضربة عسكرية مباشرة، لاسيما بعد الحصول على دعم أميركي قوي من خلال المناورات المشتركة التي جرت مؤخراً وكانت الأضخم من نوعها بين البلدين.