مع حلول الذكرى السنوية للإنتفاضة الجماهيرية التي إندلعت بكردستان في الخامس من آذار عام 1991 تتجدد المناوشات الكلامية بين الأحزاب الكردية حول قيادة تلك الإنتفاضة، حتى وصل الأمر هذا العام الى حد تزوير بعض الحقائق وتجاهل متعمد لدور بعض قيادات تلك الإنتفاضة وخصوصا مهندسها الراحل الأستاذ نوشيروان مصطفى القائد الميداني المخطط للانتفاضة الجماهيرية.

وقبل الخوض في تفاصيل هذا الحدث التاريخي الكبير لا بد أن نشير الى أن الأسباب الموضوعية والذاتية كانت متوفرة في ذلك الزمن، حيث كان النظام الدكتاتوري الصدامي قد مني بهزيمة مروعة بعد حرب الخليج الثانية والتي قضت تماما على قوته العسكرية الغاشمة وأضعفت كثيرا مؤسساته الأمنية والمخابراتية. أضف اليها إنعزال هذا النظام على المستوى العربي والدولي والإقليمي نتيجة مغامرته الطائشة بإحتلال أراضي دولة الكويت الشقيقة. وهذا ما أتاح فرصة جيدة أمام قوى المعارضة العراقية للتحرك والثورة على النظام. ففي ظل تلك التطورات شعرت المؤسسات العسكرية والأمنية العراقية بأن هناك شيئا ما يدبر من قبل قوى المعارضة وخصوصا الكردية ضد النظام، ولكنها لم تكن تعلم بالضبط ما هي السيناريوهات المدبرة. وعلى خلفية التطورات المتسارعة التي وقعت في تلك الفترة نشطت قوى المعارضة الكردستانية المؤتلفة في إطار الجبهة الكردستانية والتي ضمت ثمانية أحزاب مناضلة بجبال كردستان وفي مقدمتها الإتحاد الوطني الكردستاني الى التحرك نحو وضع خطة مبرمجة لتفجير إنتفاضة جماهيرية في المناطق الكردية بإستغلال الوضع المشوش للنظام.

وكانت قيادة الاتحاد الوطني التي تتخذ من منطقة (قاسمة رةش) ويقودها نائب الأمين العام للاتحاد الوطني حينذاك الأستاذ نوشيروان مصطفى تتحضر فعليا لتلك الانتفاضة من خلال الاسراع بتشكيل وتنظيم خلايا مسلحة داخل المدن الكردستانية وتمكنت خلال فترة وجيزة من تجنيد عدد هائل من المقاتلين المسلحين داخل المدن. فعلى سبيل المثال، كانت في داخل مدينة أربيل وحدها ما يقرب من 630 خلية مسلحة مهيئة للمشاركة في إنتفاضة المدينة، ولو حسبنا عدد كل خلية بأنه يتشكل من 3-5 عضو، فإن العدد سوف يقترب من حدود ثلاثة آلاف مسلح، وهذا عدد كبير. ناهيك عن الدعم الذي سوف يتلقاه هؤلاء من قبل قوات البيشمركة التي سوف تنزل الى المدن مع إعلان موعد الإنتفاضة. الى جانب ذلك تم الإتصال مسبقا برؤساء الأفواج الخفيفة الكردية الموالية للنظام والمعروفين محليا بإسم (الجحوش)، وهؤلاء كانوا الى سنوات طويلة يقاتلون البيشمركة في الجبال الى جانب قوات النظام، ولكن مع هزيمة النظام في حرب تحرير الكويت وإنهيار مؤسساته العسكرية والأمنية، جعلت هؤلاء يفكرون بمخرج من خيانتهم عبر الإتصال بقيادة البيشمركة عارضين التعاون معهم، وقد صدر بالفعل قرار من الجبهة الكردستانية يقضي بالعفو عنهم في حال إستجابتهم لدعوة القيادة الكردية والانضمام الى الإنتفاضة الشعبية ضد النظام. وهذا القرار أدى الى أن يبدي الكثير من قادة تلك الأفواج موافقتهم على العمل مع قوات البيشمركة والجماهير.

والملفت للنظر، أن قيادة الإنتفاضة كانت قد خططت أن يكون أحد هؤلاء هو الذي سيطلق أول رصاصة إيذانا ببدء الإنتفاضة بمدينة رانية الحدودية. وأبلغت جميع محاور البيشمركة وتشكيلاتها بإنتظار ذلك الشخص وثم البدء بتنفيذ خطة الإنتفاضة. وكان مقررا أيضا أن يكون يوم السابع من شهر آذار هو بداية لتفجير الإنتفاضة. لكن الذي حدث أن الإنتفاضة تفجرت قبل يومين من الموعد المحدد. ولذلك أسباب عديدة سنجملها فيما يلي:

بحسب قيادي في الاتحاد الوطني كشف لي عن معلومات لم تكن متداولة عند الحديث عن الأيام التي سبقت الإنتفاضة. فقد أسر لي بحديث خاص قبل عدة أسابيع من موعد الإنتفاضة وبينما كانت أوضاع العراق متأزمة بسبب التهديدات الأمريكية بضرب النظام، وظهور حالة من اليأس لدى العراقيين وخصوصا لدى قيادات الجيش العراقي وتشككهم في بقاء النظام ونجاته من تلك الحرب، ومع إقتراب موعد الضربة الأمريكية إتصل أحد أعضاء قيادة الاتحاد الوطني بضابط كبير يقود تشكيلا عسكريا يرابط في أحد المناطق الحدودية قرب مدينة رانية، وأبلغه بعزم قوات البيشمركة وتحضيرها لتفجير الإنتفاضة، وطلب منه الإنضمام الى هذه الحركة. ويبدو أن هذا الضابط كان كغيره من قيادات الجيش العراقي في ذلك الوقت فاقدا للثقة بالنظام واحتمال بقائه بعد هذه الحرب غير المتكافئة، ويبدو أنه كان متيقنا من هزيمة الجيش بتلك الحرب ومن إنهيار النظام الصدامي. وعلى ما فسره القيادي الكردي، يبدو أن هذا الضابط كان من الشيعة المتذمرين أصلا من حكم صدام حسين البعثي وينتظر كغيره من أبناء الشعب العراقي التخلص من هذا النظام الطائفي. ومع كل ذلك حاول الضابط أن ينأى بنفسه عن خوض هذه المغامرة غير المحسوبة النتائج، وأراد أن يقف موقفا لا يحسب له ولا عليه، فأبلغ القيادي الكردي: بأنه لا يمكنه أن يشارك في الإنتفاضة، لكنه سوف يقف على الحياد ولن يتدخل لقمع الإنتفاضة في حال وقوعها. وكانت هذه الإجابة كافية بالنسبة لقيادة البيشمركة للمضي في خطتها من خلال تأمين جبهة النظام لصالح الإنتفاضة.

ومن جانب آخر إندلعت قبل أيام من الموعد المقرر للإنتفاضة وهو اليوم السابع من شهر آذار، مظاهرات شعبية في منطقة (خبات) وهي مظاهرات واجهت ردا قاسيا من قبل المؤسسات الأمنية للنظام التي سارعت بعملية إعتقالات واسعة ضد المشاركين. وفي تلك الأثناء وردت معلومات بتحضير تعزيزات إضافية من قوات الجيش بإتجاه المنطقة لقمع أية مظاهرات محتملة. وسرت شائعات بأن قوات عسكرية ضخمة قادمة من مدينة الموصل تتوجه نحو منطقة رانية الحدودية تحسبا من إمتداد المظاهرات الى هناك، حيث أن الأكثرية الساحقة من متظاهري منطقة (خبات) كانوا أصلا من سكان مناطق رانية وبشدر المهجرين قسرا الى أطراف مدينة أربيل بعد تدمير مدنهم وقراهم الحدودية، وكانت مخاوف النظام متأتية من إحتمال رد فعل شعبي من سكان مدينة رانية تجاه القمع الذي مورس ضد متظاهري (خبات) من أقربائهم وأهاليهم. وفعلا كانت هناك تباشير تحرك القوات العسكرية القادمة من الموصل نحو الطريق الواصل الى مدينة رانية. وهذا ما شجع قيادة الداخل الى الإسراع بتفجير الإنتفاضة قبل الموعد المحدد بيومين لقطع الطريق على وصول تلك القوات الى المنطقة.

ومما يجدر ذكره هو الدور الأكبر الذي قامت به إذاعة (شعب كردستان) التابعة للإتحاد الوطني الكردستاني في إنجاح الإنتفاضة. فمع بدء الحرب وجهت قوات التحالف الدولي ضربات موجعة ومؤثرة على شبكة الإتصالات العراقية وأصابتها بشلل تام. وهذه الضربات وتعطيل وسائل الإتصالات العراقية ساهمت في وقف التشويش الذي كانت الأجهزة العراقية تمارسه على إذاعات الثورة، وفي مقدمتها إذاعة (شعب كردستان). وكانت هناك مراسلتان لهذه الإذاعة واحدة داخل الأراضي الإيرانية، والأخرى داخل أراضي كردستان قرب مدينة رانية. ولعبت هذه الإذاعة التي مدت بثها اليومي على مدار ساعات اليوم دورا بارزا وفاعلا في شحذ الهمم والدفع بإتجاه الثورة على النظام. إضافة الى إرسال البرقيات المشفرة الى الخلايا المسلحة داخل المدن والمناطق الكردستانية لتحديد وتعيين مواعيد وأماكن التحرك لتحرير المناطق الكردستانية، إضافة الى بث تصريحات قيادات ومسؤولي الجبهة الكردستانية وزعماء الثورة التي تدعو الى التلاحم والتكاتف والثورة على النظام الى جانب رفع معنويات المقاتلين وأفراد الشعب من خلال خطب حماسية وأناشيد وطنية تحث على الثورة ضد الطغيان. ونستطيع القول بأن تلك الإذاعة كانت العامل الأكثر تأثيرا على نجاح الإنتفاضة في عموم أرجاء كردستان.

هذه التطورات السريعة والمتلاحقة دفعت بقيادة الإنتفاضة في الداخل وتحديدا بالشخص المكلف بتفجير الإنتفاضة في مدينة رانية في يوم السابع من آذار، أن يستعجل موعد الإنتفاضة الى يومين قبل الموعد المقرر وذلك لكي يقطع الطريق على وصول التعزيزات العسكرية الى القوات المتواجدة في المنطقة. فقد أمرت قيادة الإنتفاضة المتفرعة عن الجبهة الكردستانية برئاسة مهندسها الأستاذ نوشيروان مصطفى ببرقيات مرسلة الى جميع محاور وقيادات البيشمركة والى الخلايات السرية داخل المدن بإنتظار الطلقة الأولى من قائد إنتفاضة مدينة رانية لبدء الانتفاضة في بقية المناطق الأخرى. وعليه ما أن أعلنت الإنتفاضة في مدينة رانية حتى إمتد لهيبها الى بقية المناطق، وهكذا عمت التظاهرات وخرجت الخلايا المسلحة من مخابئها وفجرت الإنتفاضة الشاملة فتحررت مدينة السليمانية في السابع من الشهر، ثم أربيل في الحادي عشر، ثم بهدينان وتوجت الإنتفاضة بتحرير مدينة كركوك في العشرين من آذار وأشعلت نار نوروز في المدينة لأول مرة منذ عشرات السنين. وبعد نجاح الجماهير الشعبية بتحرير الأقضية والنواحي والمدن واحدة تلو الأخرى، نزلت قوات البيشمركة لمساندة الجماهير وتلاحمت معها للحفاظ على هذا الانتصار الكبير الذي تحقق لأول مرة في التاريخ الكردي، حيث أدت الإنتفاضة الى تحرير الجزء الأكبر من أراضي كردستان وما تبع ذلك من إنشاء للبرلمان والحكومة المحلية القائمة الى يومنا هذا.

المهم بعد هذا السرد الموجز لحقيقة الإنتفاضة ومن وقف ورائها، ومن خطط لها ومن شارك فيها، نستخلص بأن الإنتفاضة في الأساس كانت جماهيرية. صحيح أن قادة الجبهة الكردستانية بذلوا جهدا كبيرا سياسيا وعسكريا وإعلاميا من أجل تحقيق هذا الهدف، لكن الحقيقة المؤكدة أيضا والتي نستخلصها من الرواية الحقيقية لهذه الإنتفاضة، تبين لنا بأن الشعب الكردي هو القائد الحقيقي لهذه الإنتفاضة وهو المبادر بإنجاحها وهو بالتالي صاحبها الفعلي.