في سباق انتخابي يُعد واحداً من أهم السباقات الانتخابات في تاريخ تركيا الحديث، لا سيّما أنّه يتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية عام 1923، ومع تزايد حدّة الاستقطاب السياسي والحزبي في البلاد في الآونة الأخيرة على خلفية الزلزال المدمر والتطورات المتلاحقة في معسكر المعارضة بعد الانسحاب الدرامي لحزب الجيد من تحالف الطاولة السداسية ومن ثم العودة إليه وما رافق ذلك من سجالات، يبدو أن المشهد السياسي الداخلي التركي سيكون مفتوحاً على العديد من الحسابات المعقدة داخل تحالف الطاولة السداسية بعد اتفاقه على اسم مرشحه للانتخابات الرئاسية، وإعلانه عن خارطة طريق مكونة من 12 مادة لإدارة البلاد بعد الانتخابات على أساس التشاور والتسوية.

المتتبع لتركيبة أحزاب الطاولة السداسية المعارضة العابرة للأيديولوجيات والتوجهات ومتعددة الطموحات الشخصية، والتي تضم أحزاب الشعب الجمهوري العلماني برئاسة كمال كلجدار، والجيد المنشق عن الحركة القومية برئاسة ميرال أكشنار، والسعادة الإسلامي برئاسة تيمل كاراموللا أوغلو، والمستقبل المنشق عن حزب العدالة والتنمية برئاسة أحمد داوود أوغلو، والديمقراطية والتقدم المنشق عن حزب العدالة والتنمية برئاسة على بابا جان، والديمقراطي برئاسة غولتكين أويصال، يدرك أن حسابات موازنات ومآلات ما بعد الانتخابات تبقى هي المعيار الأهم وربما الوحيد الذي تصوغ المعارضة على أساسه مواقفها وقراراتها، وهذا ما يمكن استخلاصه من تركيبة الأحزاب المشكلة للطاولة السداسية، والتي تجمع أحزاباً متباعدة ومن خلفيات متناقضة (يمينية ويسارية وقومية)، بعضهم كان خصماً تاريخياً للبعض الآخر، كما هو الحال مع حزبَي الشعب الجمهوري العلماني والسعادة الإسلامي مثلاً. كما يمكن استخلاصه من الخلافات التي سيطرت على أحزاب الطاولة السداسية في الفترة الماضية والتي دفعت بحزب الجيد إلى الانسحاب من التحالف ومن ثم العودة إليه بشروط.

فما أقدمت عليه ميرال أكشنار حسب العديد من القراءات يأتي لضرورات انتخابية شخصية بالمقام الأول، فأكشنار من خلال خروجها من تحالف الأمة ومن ثم عودتها بعد ما أثارته من زلزال سياسي كبير، كانت تبحث عن مستقبلها السياسي ومستقبل حزبها بالمقام الأول بعيداً عن الشعارات المرفوعة، فهي من جهة تريد أن تلعب دوراً في تركيا المستقبل وأن تبقى في موقع "صانعة الملوك"، من خلال لعب دور أساسي في تحدد اسم المرشح التوافقي للطاولة السداسية وفرض شروطها، ومن جهة أخرى لا تريد أن تبقى تحت كنف حزب الشعب الجمهوري، الذي كان له فضلاً في دخولها انتخابات عام 2018 بعد انضمام 15 نائباً من حزب الشعب الجمهوري إلى حزب الخير ليشكل كتلة برلمانية مكنته من المشاركة في الانتخابات ودخول البرلمان بعدها. وبالتالي فإن هدفها الأبرز يتمثل في جعل حزبها ضمن أكبر الأحزاب السياسية تحت قبة البرلمان المقبل من جهة، ووراثة حزب الحركة القومية بعد رحيل رئيسه دولت بهشلي المتقدم في السن من جهة ثانية، وتمثيل تيار يمين الوسط من جهة ثالثة، وبالمنطق نفسه يمكن فهم مدى ارتباط الأحزاب الصغيرة الأخرى كالمستقبل والسعادة، بحزب الشعب الجمهوري المغالي في علمانيته، ودخولهما في الانتخابات كخصمين للرئيس أردوغان الذي يجتمعان معه في الخلفية الفكرية والسياسية، إذ إن دخولهم البرلمان وبقاءهم في الحياة السياسية ما بعد الانتخابات مرهون بالتحالف مع حزب الشعب الجمهوري إلى حدٍ كبير، لذلك لم يكن مستغرباً تحالفهما مع حزب الشعب الجمهوري نتيجة تلاقي المصالح الشخصية والانتخابية حتى ولو بدا ذلك لا يتفق مع الايدولوجيات.

أما بالنسبة لكمال كلجدار أوغلو فتتعدد حساباته أيضاَ ويطغى عليها البعد الشخصي، فمن خلال انتزاعه القرار الجماعي لتحالف الطاولة السداسية لخوضه انتخابات الرئاسة ممثلاً عنها، ورفضه لترشح رئيس بلدية من داخل حزبه لرئاسة الجمهورية، ومن ثم قبوله شرط ميرال أكشنار بتعيين رئيسي بلدتي إسطنبول وأنقرة نواب له في حال فوزه بالانتخابات، يريد من جهة إشباع غروره بإلحاق أول هزيمة بالرئيس أردوغان، وتتويج مسيرته السياسية بفوز عليه بعد أن خسر أمامه سابقاً في انتخابين رئاسيين وانتخابين محليين واستفتاءين و4 انتخابات عامة، ومن جهة ثانية يفكر بمستقبله الحزبي ممثلاً في رئاسته لحزب الشعب الجمهوري، حيث لا يرغب في خسارة المقعدين، معاً، كون عدم نجاحه في الانتخابات الرئاسية للبلاد، سيؤثر على موقفه وموقعه الحزبي، ومن ثم فهو يرغب في تقديم نفسه للمشهد السياسي التركي بصورة أكثر وضوحاً.

أي أن إصرار كلجدار اوغلو على ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية ممثلاً عن الطاولة السداسية ورفض ترشح رئيس بلدية من داخل حزبه لرئاسة الجمهورية، يقوم على المزاوجة بين المصلحة الشخصية لكلجدار أوغلو (ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة)، والمصلحة الحزبية (الإبقاء على رئيسي بلدتي أنقرة وإسطنبول في منصبيهما حتى لا تتم انتخابات جديدة).

وبالتالي يمكن القول إنّ السياقات المحيطة بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية المقبلة وإجراءاتها تكشف قدراً متزايداً من الاستقطابات الحزبية قد تقلب الحسابات السياسية في الفترة المقبلة، فعملية الاختيار العسيرة لكمال كيجدار أوغلو مرشحاً موحداً للطاولة السداسية لم تنهِ الحسابات السياسية المعقدة داخل تحالف الطاولة السداسية، فبالنسبة لأحزاب هذه الطاولة ولرؤسائها، قد لا تشكل نتيجة الانتخابات المرجوة أو المتوقعة المعيار الوحيد الذي يصوغون على أساسه مواقفهم وقراراتهم، فمآلات ما بعد الانتخابات ربما تكون أثقل في ميزان صانع القرار من نتائجها، سواء ما يتعلق بموقع الحزب من الحياة السياسية أو موقع رئيس الحزب فيه، وهذا ما ستكشف الأيام القادمة وصولاً إلى الانتخابات المزمع عقدها في 14 مايو/ أيار المقبل.