وجد إقليم كوردستان العراق في هذه الآونة نفسه أمام تحد كبير يهدد أركان إدارته التي تأسست قبل 32 عاما ويتمثل في انتقادات أمريكية ودولية جادة وكبيرة ومتكررة في ملف حقوق الإنسان والحريات ما يستدعي التعامل معها بحكمة وحنكة دون تهور أو تعنت أملا في البدء بإعادة نظر شاملة في ركائز الحكم والإدارة والعلاقات السياسية داخليا وخارجيا، وحفاظا على السمعة التي تمتع بها الإقليم يوما ما كواحة للديمقراطية والحريات في منطقة الشرق الأوسط.

فبعيدا عن مضمون التقارير المنتقدة وما حوته من تحديد لمكامن الخلل ومصادر الأخطاء ومواطن القصور، فإن توقيت صدورها توحي بوجود امتعاض وعدم رضا كبير عند المجتمع الدولي، فليس من قبيل الصدفة أن تتوالى هذا الكم من الاعتراضات دفعة واحدة دون سبب، إذ جاء تقرير الخارجية الأمريكية بُعيد انتقادات تقرير منظمة هيومان رايتس وتش وقبلها تحذيرات المبعوثة الأممية إلى العراق جنين بلاسخارت عن عدم إمكانية استمرار وضع الإقليم كما هو، تلته مجلة فورين بوليسي وتقريره عن انهيار "بيت الورق الكوردي" لتكتمل حلقات السلسلة بقرار هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية في باريس لمصلحة الحكومة العراقية في تصدير النفط عبر تركيا، كل هذه المعطيات إن دلت على شيء فإنها تدل على إصرار ورغبة جامحة في إجبار حكومة الإقليم على تغيير أسلوب حكمها وإدارتها وسياستها التي لم تعد مرغوبا فيها لا عند حلفائها ولا عند مواطنيها ولا عند أغلب أطرافها السياسية، بدورها لا تجد حكومة كوردستان بدا من تدارك الوضع الذي لا ينفع فيه الردود المطولة والتوضيحات المملة والتكذيبات المفتقرة للبيانات الدقيقة والتفسيرات غير الواقعية وكيل التهم جزافا، بل يجب أن ينصب التركيز على تحسين الصورة القاتمة التي رُسمت عن الإقليم ومعالجة مواطن الضعف والتقصير بحلول سريعة فعالة وناجعة تبدأ داخليا وتحديدا من العلاقات المتوترة بين الفرقاء السياسيين وتنتهي خارجيا بتوجيه وإدارة سياسة موحدة متفق عليها كوردستانيا حول مجمل القضايا المهمة المتعلقة بمواطني كوردستان ومستقبل إقليمهم الواعد.

وليس هناك أدنى شك من أن تقارير المنظمات العالمية حول حقوق الإنسان والحريات في معظمها مسيسة والغرض من وراء نشرها هو الضغط على حكومات بعض الدول وغيرها من الجهات، كما نتلمسه كل عام فيما يتعلق بدول لا تتوافق مع سياسات من يصدرون مثل هذه التقارير مثل الصين والسعودية وإيران وسوريا وكوريا الشمالية وحتى دول أوروبية من قلب أعرق الديمقراطيات، وهذا ينسحب أيضا على ما تصدره وزارة الخارجية الأميركية سنويا من تقارير تقييم أوضاع حقوق الإنسان عالميا فهي الأخرى لا تخرج عن الدائرة نفسها.

وقد تتمكن حكومات من العمل على نقاط الضعف التي تشخصها التقارير وتحولها إلى نقاط قوة تستطيع أن تجاري بها التيار وتمسي ذات مقبولية وبالتالي ينقلب الانتقاد ثناء وإشادة ومزيدا من الدعم كما فعلت الحكومة السودانية خلال السنوات القليلة الماضية. ولا يمكن أيضا إنكار تأثير هذه التقارير ومفعولها على الدول والحكومات سياسيا واقتصاديا وأمنيا وقد تؤدي إلي تغيير جذري في سياسة التعامل معها إقليميا ودوليا تفضي بالنتيجة إلى التهميش والانعزال كما حدث مع دول أفريقية وآسيوية خلال العقود القليلة الماضية.

ولو أن التقارير قاسية هذه المرة في بعض جزئياتها إلا أنها حقائق لا يمكن التملص منها ومع ذلك تمثل فرصة ذهبية فريدة لا تعوض بالنسبة للإقليم لإجراء مراجعات معمقة في كل ما يمت بصلة للحياة السياسية والإدارية والاقتصادية والأمنية والشؤون المجتمعية والعلاقات بين الأطراف السياسية بعيدا عن الأحقاد والضغائن وتخوين الآخرين والتفرد، فأصحاب التقارير هم الذين أسهموا في تأمين الدعم للإقليم أيام الصعاب وهم الذين كانوا يشيدون بتجربته الفتية ويحشدون لها العون من أقاصي المعمورة حتى نمت ووقفت بوجه الشدائد والمحن، فما الذي حدث لينقلبوا هكذا رأسا على عقب؟ هذا هو بيت القصيد الذي على أصحاب القرار الكوردي التساؤل عنه والإمعان فيه بذهنية متفتحة للبحث عن أسباب التراجع والضعف، وليس الاستمرار في الإنكار وإخفاء الحقيقة وعليهم أن يعوا أن الصديق هو من يبكيك والعدو هو من يضحكك.

وببساطة شديدة فإن محور جميع الانتقادات لا يتعدى نقاط قليلة لا بد من العمل على حلها سريعا وبجرأة ودون تردد وهي ليست بتلك الصعوبة بحيث لا يمكن إنجازها، وتبدأ من:

العمل على تحسين معيشة المواطنين لا سيما الموظفين ومعالجة مشكلة تأخر رواتبهم وصرف ما أدخر منها وما لم تصرف.

تحقيق شفافية مالية مقبولة سواء على صعيد إعادة إرسال قانون الموازنة إلى البرلمان بعد انقطاعها بعد 2015 أو الكشف عن واردات الإقليم النفطية وغير النفطية بإشراف هيئة مستقلة.

الكف عن التعامل مع الأطراف المشاركة في الحكومة بنظرة شك وريبة والابتعاد عن تخوين الأطراف السياسية والاستماع إلى رأيها عبر الحوار والتفاهم.

العودة إلى العمل الجماعي المشترك مع كل من يريد خدمة الإقليم ونبذ التفرد والاستئثار بالسلطة.

إنهاء التمييز في التعامل مع مدن ومناطق الإقليم وإطلاق المشاريع الخدمية والاستثمارية فيها في إطار من العدالة والمساوات.

التوقف عن تشكيل قوات هامشية فرعية لأغراض الابتزاز السياسي والبدء فورا بتوحيد قوات البيشمركة والأمن الذي طال انتظاره رغم الإلحاح والإصرار، فالأمر جدي وبحاجة لتغليب المصلحة الوطنية على مصالح فئوية ضيقية.

وقف التدخل في شؤون القضاء وتسييسه واستخدامه للمصلحة السياسية والحزبية وتعزيز استقلاليته، والدفع بقضاة مستقلين مشهود لهم بالوطنية والنزاهة.

اتخاذ إجراءات إضافية صارمة لصون حقوق الإنسان والحريات الشخصية وحرية الرأي والتعبير والتظاهر والاحتجاج، تزامنا مع تعزيز الإجراءات القانونية الكفيلة بالمحافظة على تلك الحقوق لعامة الناس.

تلبية مطالب الأطراف السياسية في تعديل قانون الانتخابات وتشكيل مفوضية مستقلة وإعادة النظر بدقة في سجل الناخبين المشكوك في صحة أرقامها وأسمائها.

التوصل إلى صيغة حول كوتا الأقليات بما يضمن حقوقهم وبما يرضي جميع ممثليهم.

والأهم من كل ذلك وضع خارطة طريق دقيقة لمحاربة الفساد على أرض الواقع وتشكيل محكمة مستقلة مختصة بجرائم الفساد الإداري والمالي واستغلال الوظائف الإدارية والحكومية للمصلحة الشخصية بشكل غير قانوني.

إن الوضع لا يحتمل التأخير وبحاجة لإجراءات عملية ملموسة ولا تنفع معها الشعارات الرنانة والتغني بمآثر الماضي والنضال المديد والتضحيات العظيمة واستعطاف الناس، إذ تكاد كوردستان تخسر حلفاءها ويصبح انهيار "بيت الورق" واقعا مرا لا يسر أحدا.