لقد كان وما يزال الشرق الأوسط نقطة ارتكاز عالمية قلقة تتنافس وتتصارع وتتوازن فيها وعليها القوى الدولية الكبيرة اقتصادياً وعسكرياً، ليس اليوم بل عبر حقب التاريخ تعرضت هذه المنطقة من العالم إلى صراعات بين الأقوام والكيانات حتى احتضن ترابها ملايين المتصارعين في حروبٍ قاسية، سادت فيها أقوام ثمّ بادت، واختلطت الأعراق فيها والأنساب حتى تشابهت السحن والعادات، ورغم ذلك لم تنجح معظم تلك الكيانات في أن تضع خارطة طريق لتنظيم تلك الهويات على أساس التفاعل وملاقحة الحضارات بديلاً للتصادم والإقصاء الذي أنتج عشرات الحروب وأضاع مئات الفرص الذهبية للتطور والتقدم.

إن اتفاقية سايكس بيكو السرية بين بريطانيا وفرنسا عام 1916م، وموافقة إيطاليا وروسيا على تقسيم قلب الشرق الأوسط وتوزيع غنائمه بينهم عقدت أوضاع المكونات الأصغر لولا أن اتفاقية سيفر في عام 1920م منحتهم بارقة أمل لتحقيق مطالبهم في إنشاء دولة كردية، إلا أن معادة الصلح في لوزان بعد ثلاث سنوات -أي في عام 1923م- ألغت اتفاقية سيفر ونسفت تلك الأحلام التي وعدت الكرد بتحقيق حلمهم في إقامة دولتهم كبقية الشعوب التي نالت استحقاقاتها كجزء من مخرجات تلك الاتفاقيات، و أعطت إشارة البدء لحقبة من الصراعات الدموية التي وصفها أحد الدبلوماسيين الأمريكان في حفل توقيع معاهدة الصلح بأن الموقعين عليها إنما وقعوا على حقبة من الحروب والمآسي!

ولم تلبث سنوات قليلة حتى تحققت نبوءة الدبلوماسي الأمريكي، حيث مزّقت تلك الاتفاقية في لوزان العيش المشترك بين المكونات المختلفة عرقياً وثقافياً، دينياً ومذهبياً، وكانت بداية لاشتعال الحروب وحقبة التصادم بعد سنوات ليست طويلة وبالذات بعد قيام دولة تركيا الحديثة التي وضع أسسها كمال أتاتورك وما تلاها من أنظمة الانقلابات في كلّ من العراق وسوريا وإيران بمختلف توجهاتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لكنها كانت تشترك تماماً في معالجاتها لقضية المكونات وبالذات المكون الأكبر في الشرق الأوسط الذي أهمل في اتفاقيات سايكس بيكو ولوزان، وأقصد هنا الكرد في أجزاء وطنهم المجزئ إلى أربعة أقسام في كلّ من تركيا وإيران والعراق وسوريا، حيث فشلت تلك الأنظمة في إيقاف عجلة التصادم وإقامة دولة المواطنة التي يرتقي فيها الانتماء على كلّ الهويات والثقافات، لأنها اختزلت المواطنة في الانتماء إلى القومية الأكبر والانصهار فيها، واستخدمت عمليات التتريك والتفريس والتعريب سيئة الصيت مع الكرد وغيرهم.

إن المنطقة اليوم تدفع ثمن تلك السياسات الفاشلة والشمولية في إقصاء المكونات القومية والعرقية، وما يحصل الآن في كلّ من تركيا وايران والعراق ولبنان وسوريا واليمن، ومتوقع أن يحصل في المغرب والجزائر وليبيا والسودان، إنما يؤكد فشل وانهيار الأنظمة الشمولية القومية والمذهبية المتشددة، التي ما تزال تصرُّ على نهج إلغاء الآخر المختلف قومياً أو دينياً أو مذهبياً، وفرض إرادة المكون الأكبر دون الأخذ بحقوق الآخرين الشركاء في الأرض والمال، مما يرفع وتيرة التصادم بين الهويات القومية والعرقية والمذهبية، وخير دليل على استمرار هذا النهج هو النزف الدائم في فلسطين وتركيا وإيران وسوريا واليمن، التي خسرت فرصاً ذهبية للتطور والتقدم لما حباها الله بثروات وإمكانيات تتفرد بها في المنطقة.

ما يجري اليوم من دوامة العنف والعنف المضاد وما يتعرض له إقليم كردستان العراق من هجمات صاروخية ومدفعية تركية وإيرانية لملاحقة معارضيهما الهاربين إلى العراق منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي يؤكد وبعد قرن من الزمان على فشل تلك الاتفاقيات القديمة، وفشل الأنظمة والكيانات التي تستمد قوتها وتطيل بقائها في السلطة على هذا التصادم الدموي بين الهويات القومية والثقافية، وقد آن الأوان لوضع حلول جذرية لأخطاء فظيعة وقعت فيها الدول العظمى وتسببت في إنتاج مآسي وكوارث بين الشعوب، وحريٌ بها اليوم وتحديداً الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا التي كانت تتقاسم العالم، وما تزال تهيمن على مقدراته ومستقبله، أن تعمل مع ممثلي المكونات المتضررة في هذه الدول، لوضع أسس خارطة طريق جديدة لاتفاقية دولية ضامنة، ترسم حدوداً للتعايش السلمي والحضاري بين المكونات، بما يضمن حقوقها السياسية والثقافية من خلال تشريع قوانين لحمايتها وإتاحة فرصة لإنشاء نظام جديد في المنطقة بعيداً عن ذلك الإرث الفاشل من سياسة الشراكة القسرية والاحتواء، وتطوير نظم الإدارة السياسية والثقافية والاقتصادية بما يمنح تلك المكونات حقوقها أما بنظام فيدرالي كالنموذج العراقي في حلّ القضية الكردية أو باستفتاء على حق تقرير المصير كما حصل في كلّ من جيكوسلوفاكيا وتيمور الشرقية وجنوب السودان والعديد من الأقاليم والدول الفيدرالية المتعددة الهويات كما في بلجيكا وسويسرا والولايات المتحدة وروسيا الاتحادية.